من ضفة دجلة، الأميرة نسرين تزور مقهى البيروتي التاريخي، ولأن المقاهي الشعبية في بغداد هي خاصة بالرجال، فليس من العادات أن تدخلها النساء، إلا أن سمو الاميرة الدكتورة نسرين بنت الأمير محمد بن الملك فيصل الأول الهاشمي أرادت أن تذهب لزيارة ذلك المقهى الشهير الذي أرتاده أشهر الشخصيات الأدبية والسياسية لأكثر من 100 عام، هؤلاء الذين غادرت أصواتهم الحياة وبقي المكان شاهداً على تاريخهم.
من الضفة الشرقية لنهر دجلة وبالتحديد من عند مدخل سوق الشورجة، أخذت سمو الأميرة الدكتورة نسرين قارب لتبحر في دجلة الخير بإتجاه الجهة الغربية للنهر من جهة الكرخ، مروراً بالمدرسة المستنصرية التي بناها المستنصر بالله الخليفة العباسي، ومدخل شارع المتنبي الثقافي حيث يقف المتنبي شامخاً، وبجانبه ساعة القشلة الشهيرة التي شيدت في العهد العثماني لتكون ثاني ساعة بميدان بعد “بيغ بن” في لندن، وهناك في ساحتها توج جدها الملك فيصل الأول في عام 1921 ليكون أول ملك للعراق في العصر الحديث. وعند إلتقاء محلتي الجعيفر والعطيفية جنوب جسر الشهداء وجدت سموها المقهى الشهير، مقهى البيروتي.
إلتفتت سمو الأميرة الدكتورة نسرين إلى من كان يرافقها وقالت لهم: “هذا المكان أحد معالمنا العريقة الشاهدة على التاريخ البغدادي.. فمنذ أكثر من 100 عام جلس على مقاعد هذا المقهى أهم الشخصيات العراقية من سياسيين وشعراء وأدباء، وسمعت طاولات هذا المقهى أهم القصائد الشعرية، وكتب عليها أهم الكتب والروايات والعرائض، وعليها وضعت استكانات الشاي أثناء المناقشات السياسية والنقدية، وهناك أقيمت الأماسي الشعرية وجلسات “الجالغي” المقام العراقي وغيرها من النشاطات الثقافية التي كانت تمتد إلى خارج المقهى في الصيف لتشهدها أمواج الخير في دجلة فتنقلها إلى هناك وهنا جنوبا وشمالا حاملة معها اصوات من بغداد”.
وأضافت قائلة: “مقهى البيروتي في بغداد الذي تأسس العام 1900 جزء من تاريخ مقاهي بغداد الثقافية، وللاسف يتعرض للنسيان ، كما كثير من المعالم التاريخية… وأكملت حديثها: إن هذا المبنى شاهد على العصر الماضي منه والحاضر. أنظروا لجمالية مبناه البغدادي وشبابيكه “الشناشيل”.. والله لو كان هناك من المسؤولين من يعي تاريخ العراق لأصبح هذا المقهى معلم أثري ثقافي ادبي وشعبي تقام فيه الامسيات البغدادية للجالغي والشعر والموسيقى فيكون قبلة للراغبين بالتعرف على جزء من تراث وشخصيات بغداد. ولكن للأسف الشديد، ها هو مقهى البيروتي صامد في وجه الزمن ليبقي ومن تبقى من بعض رواده القدماء شهود عيان للإرهاب وسقوط الأبرياء يوما بعد يوم في دار السلام التي نسيها السلام”.
الجدير بالذكر أن تسمية المقهى قد نسبت إلى صاحبها الحاج محمد البيروتي. الذي نزح من بيروت أبان العهد العثماني واتخذ الحاج محمد جانب الكرخ مستقرا ومقاما له منذ سنة 1897م وظل يدير هذه المقهى إلى ان توفى في عام 1916 واستلمه من بعده ابنيه ابراهيم وعبدالفتاح. كان مقهى البيروتي من اكبر مقاهي بغداد وقبلة ومنتدى وملتقى لوجوه بغداد وعلمائها وشعرائها من كل حدب وصوب. ففي مدخل المقهى يجد الزائر تختان متقابلان.. هذان التختان اللذان كانا مخصصان للشعراء والادباء امثال الملا عبود الكرخي والحاج مجيد مكية، ومحمد سعيد التكريتي وكاظم القهراوي وشكر الملا حسين وتوفيق الخانجي ومحمود الحاج جواد الشكرجي وفائق التكريتي وداود الوتار.
وكان مقهى البيروتي المكان الذي يلتقي فيه كبار التجار ورؤساء العشائر والاعيان ورجال الدين، مضرب موعد لجميع الذين يقدمون من خارج بغداد ومن جنوب العراق خاصة وكانوا يحملون معهم الكثير من الرسائل ويسلمونها الى ابراهيم البيروتي وهو بدوره يوزعها بين اصحابها من رواد المقهى، اما ما يتبقى من الرسائل فيضعها فوق “رف خاص بالرسائل” أوفي صندوق الرسائل ليتسلمها صاحبها حين يأتي للمقهى.
ومن أهم ميزات مقهى البيروتي عن غيره في بغداد أنه في أغلب المقاهي العراقية تتحول الاحاديث الى مجالس حوارات ثقافية أدبية، أما في البيروتي فإن الثقافة الشعبية والحكايات جزءاً من الحراك الأدبي والسياسي، بما تحمله من مغزى ودروس واستذكار لشخصيات شعبية مهمة لعبت دورا في الحياة العراقية وأخرى في محاربة واقع البلاد في ذلك الوقت.