كان الناس في العصور القديمة يؤرخون لولاداتهم وديوان
حياتهم بأحداث العام الذي ولدوا فيه وبأحداث الأعوام اللاحقة، عندما استعدتُ تاريخ
ولادتي وجدتني أؤرخُه بأنني ولدت في العام الذي غنت فيه أم كلثوم “أنت
عمري”، وفي العام الذي غنت فيه للمرة الثالثة وفي نسخة أخيرة “اراك عصي
الدمع” لرياض السنباطي، وفي العام الذي أرهقت فيه الموجي بأغنية “للصبر
حدود”، وعزفت على أوتار قلوبنا بـ “سيرة الحب” لبليغ حمدي.
وأرخت لولادة أخوتي ولادتهم بأغنيات أم كلثوم في العام
الذي ولدوا فيه، لطالما أذهلتني هذه السيدة، حتى اليوم أشعر بوطأة غيابها، منذ وعت
روحي سلطة صوتها على سامعها، وأنا أشفق على أجيال ولدت غابت عنها أم كلثوم منذ
رحيلها المدوي عام 1975 .
تابعتُ كل الموسوعات التي وثقت لأغنياتها وأعمالها المسجلة
وغير المسجلة، تتبعتُ أناشيد دينية ألفتها ، فدُهشتُ لأنها ما زالت تُنشد حتى
يومنا هذا، جمعت أعمالها شبه كاملة، لم أترك كتاباً نُشر عنها إلا وقرأته ودققت في
ما يختزنه من معلومات، تساءلتُ دوماً أي سلطة روحية لهذه المرأة ما زالت تُفرد ظلها
على عالمنا حتى اليوم.
ومن يُدقق جيداً سيقع على أعوام كان إنتاج أم كلثوم فيها
شبه منعدم، فإذا استعاد سيرتها الذاتية أدرك أنها كانت أعوام محنٍ وحروب اعترضت
مسيرة هذه السيدة ، إلا أنها خرجت منتصرة من كل معاركها، وأتاها الزمن ولو بعد حين
بمن ناصبوها الحرب لينحنوا أمام عظمة الصوت ـ الأمانة المودع فيها .
حتى وهي على قمة الغناء التي تفردت بها وجدت أم كلثوم من
يحاربها ويُحملها تبعات هزيمة العام 1967 وهي من هي في زمنها، خرجت إحدى الصحف
وبالمانشيت العريض لتكتب:”أم كلثوم أفيون الشعب”، اتهم غناؤها بأشنع
التهم بتغييب العقل وبتخدير الجمهور حوكم فنها، رمى البعض كل ما قدمته لمصر طوال
عقود في سلة المهملات، كان البحث عن مشاجب لتبرير الهزيمة قائم على قدم وساق…
حزنت أم كلثوم ، لهزيمة بلدها، دخلت غرفتها وأغلقت على
نفسها باب الحزن والغرفة، إلا أنها عندما مُس بفنها انتفضت كعملاق وقررت أن تنهض
بعبء المساهمة بتأمين دخلٍ لائق لما أسمي حينها بالمجهود الحربي لشراء الذخيرة
للجيش المصري، واستمرت جولاتها الغنائية هذه من العام 1967 التي بدأتها من
الأوليمبيا في باريس وصولاً إلى آخرها عام 1972 في بعلبك لبنان ، وقد كلفتها هذه
الجولات في كل بلاد العالم العربي الكثير من صحتها التي ما لبثت أن حالت دون
وقوفها على المسرح…
لم تتغير الصحافة منذ زمن أم كلثوم ، ما زالت أول من يخف
إلى محاكمة الكبار والاستهانة بتاريخهم ، وإذا كان هذا الاعتداء وقع على أم كلثوم
وهي في عز سلطتها الفنية ، فكيف كان حال الحروب التي خاضتها في بدايتها وهي ما
زالت يافعة طرية العود تحمل براءة الريف ، وشقاء ومعاناة التجربة…
في بدايتها انتهكت الصحافة سمعتها فاتهمتها مجلة المسرح
بعدما غررت منيرة المهدية بصاحبها الصحافي الشاب فوقع في غرامها وإكراماً لعيون
السلطانة لم يتوانَ عن اتهام الفتاة الضعيفة بأنها فارة من قضية آداب من قريتها،
كانت هذه أول صفعات القاهرة لأم كلثوم.
أما الثانية فتلقتها عندما حاربتها منيرة المهدية فأتت
بمجهولة وأعلنت على مسرحها أن أم كلثوم ستغني، حينها اضطرت أم كلثوم إلى توزيع
إعلانات باليد لحفلاتها لتؤكد فيها أن من يُحييها “أم كلثوم الأصلية”.
الصفعة الثالثة ، عندما استيقظت لتجد نفسها مطلوبة إلى بيت
الطاعة من “عبد الستار الهلالي” الرجل الذي ادعى أنه زوجها ، ومثلت أمام
القضاء ، وعجز المدعي عن تقديم عقد زواجه منها ، فأدخل السجن لافترائه .
حتى السلطة حاربت أم كلثوم ، أخافت هذه المرأة بقصيدة
“نهج البردة” قصيدة أحمد شوقي القصر الملكي فضغط بكل ما أوتي من قوة
ليمنعها من غناء بيت فيها:”الاشتراكيون أنت إمامهم/لولا دعاوى القوم
والغلواء” ، والغريب أن أم كلثوم التي اضطرت مرغمة بعد ضغط شعبي جارف وضغط من
القصر الملكي وانفصلت عن زوجها الأول محمود الشريف لأنه بحسب الجمهور والقصر الملكي
أقل منها شأناً بكثير ، لم ترضخ للقصر الملكي في بيت من الشعر ستغنيه، وظلت نهج
البردة ممنوعة من البث في الإذاعة المصرية حتى سقوط الملك فاروق .
وحاربتها السلطة ثانية عام 1952 بعدما بات الفن خاضعاً
لحكم العسكر، فقرر المسؤول العسكري منع بث أغنياتها في الإذاعة بإيعاز من محمد عبد
الوهاب “مطرب الملوك الآخر”، كانت هذه واحدة من أقسى المحن الفنية التي
عصفت بها ، إلا أن الثورة كانت تحتاج إلى أصوات دعاية، لم تكن أم كلثوم واحدة منها
أبداً، فما تركته من أغنيات يؤكد أنها غنت لمصر لا لأشخاص.
عام 1964 عندما غنت “أنت عمري” كان أكثر
الخائفين من تعاونها مع محمد عبد الوهاب عبد الحليم حافظ ، لم يتردد في القول أن
الأغنية:”مش مناسبة سنها”، عاقبته أم كلثوم توقفت الإذاعة عن بث أغانيه
لمدة عام، كان عبد الحليم حافظ يريد أن ينفرد بالنجاح وبالثورة، إلى أن أخرسته
هزيمة عام 1967 وأدخلت شريكه صلاح جاهين في اكتئاب طويل أفضى إلى انتحاره، وعندما
صمت عبد الحليم عن خداع الشعب المصري نهضت أم كلثوم لترفع من معنوياته وتدعوه
للنهوض:”قوم بإيمان وبروح وضمير/دوس على كل الصعب وسير/إنوي/سمي/صلي/كبر/
توصل فوق المعجزة واكتر”…
لم يكن طريق أم كلثوم مفروشاً بالورود، هذه الفتاة قطعت
آلالاف الكيلومترات وهي تلف كل قرى وكفور وجه بحري [مناطق الريف] حتى وصلت إلى
القاهرة، هذه المرأة بدأت الغناء منذ كانت في الخامسة من عمرها واستمرت تغني حتى
العام 1975 ، طوال 70 عاماً، كان صوتها الجوهرة الخضراء التي اختصت بها منذ
ولادتها ، وقيض الله لصوتها شعراء وملحنين ومنزلة ومقاماً وحياة ستمتد قروناً
طويلة جداً…