عندما سطع نجم أم كلثوم بعيد وصولها إلى القاهرة كان الغناء لا يتعدى كونه “مغنيات صالات”، سنة 1929 نشرت مجلة “الشرق الأدنى” أن المطربة توحيدة واسمها الحقيقي لطيفة فخر ـ وكانت من الشهيرات في الغناء في ذلك العصر ـ قد وضعت شرطاً في عقد اتفاقها مع “مانولي” صاحب قهوة ألف ليلة وليلة وينص العقد على أن ليس للطرف الأول )مانولي( الحق في إرغام الطرف الثاني )توحيدة( ـ على مجالسة الزبائن ولا أن تشرب في الليلة الواحدة أكثر من خمسة أقداح من “الكونياك”وكانت العادة في ذلك الزمن تقضي على مطربة الصالة أن تجالس الزبائن وأن تتنقل من طاولة إلى أخرى وأن تلبي كل من يطلب منها من الزبائن مشاركته الشرب !!
في هذا الزمن جاءت أم كلثوم لتقلب حال الغناء، في كرمة ابن هانئ لأمير الشعراء أحمد شوقي حضرت ذات سهرة وانتبه الشاعر ليلتها إلى تحفظ أم كلثوم فلم تقرب الخمر فاها، في اليوم التالي قصد شوقي دارتها وبيده مظروف في هدية لأم كلثوم كانت قصيدة:”سلوا كؤوس الطلى هل لامست فاها” ، كانت امرأة نادرة فرضت شروطها وأخلاقياتها على الفن ولم تتح له أن يفرض عليها تنازلاته أبداً .
منذ سنة 1926 دعاها الشعب باسم “سومة” تحبباً ـ وكان أحمد رامي قد كشف عن مناداته لها بهذا الاسم في ديوانه ـ ولم تكن الناس تعرف بالطبع أن اسم التدليل الذي اختاره لها رامي ، هو اسم محبوب مقدس عند الهنود ، فالآلهة سومة عند الهنود لها قدرات عجيبة إذ لديها رحيق مقدس من الورد المُذاب والشهد المصفى وعصير التفاح وياقوت الرمان يُداف فيه ضوء القمر وصوت البلابل فيشفي من به علة، ويعود به الشباب ، ويؤوب به الغائب ولو كان ميتاً ، هي واحدة من الأساطير الهندية، أما سومة المصرية فكانت أسطورة من نوع آخر .
لأغنيات كثيرة من أغنيات أم كلثوم حكايات حميمة، فقد أحب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أغنية “غلبت أصالح في روحي” كثيراً، وخلال حصار الفالوجة كانت هذه الأغنية المطلب الوحيد للكتيبة المحاصرة من قيادة الجيش في مصر ، ولبت أم كلثوم طلب جنود وطنها المحاصرين، قليلون هم الذين يعرفون قصة هذه الأغنية…
حدثت جفوة بين أحمد رامي وأم كلثوم ثم تصالحا وكانت مريضة لا تستطيع تحريك يدها فقصدها رامي للإطمئنان عليها وعندما فوجئ بعجز يدها قان بإطعامها بيده فبكت تأثراً ، ورق رامي وغفر لها جفاءها وتدفقت اللحظة قصيدة: غلبت أصالح في روحي/عشان ما ترضى عليك/من بعد سهدي ونوحي/ولوعتي بين أيديك/فضلت أقول الزمان/غير على البعد حالك/ولا الرضا بالهوان/ كتر علي دلالك” .
وفي العام 1952 سنحت ساعات صفاء بين الشاعر ومحبوبته الملهمة فكتب لها:”جددت حبك ليه/بعد الفؤاد ما ارتاح/ حرام عليك خليه/غافل عن اللي راح/أنا لو نسيت اللي كان/وهان علي الهوان/أقدر أجيب العمر منين/وارجع العمر الماضي/أيام ما كنا احنا الاتنين/أنت ظالمني وانا راضي” ، وعندما حمل لها رامي القصيدة في المسرح وبعد أن قرأتها قالت له: هات إيدك يا رامي أبوسها.. رفض رامي وأصرت وقبلت يده التي كتبت هذا الكلام.
وفي الأربعينات نظم الشاعر ابراهيم ناجي رائعته الأطلال ، وتمنى لو أن أم كلثوم تغنيها وعرض عليها الفكرة مرات وتناست العرض ، وعندما جاءت الستينات غنتها وهي تتربع على عرش سلطنة الطرب وبعد رحيل صاحبها ، ولم تكن هي ولا هو يعلمان أن هذه القصيدة ستكون واحدة من العلامات الفارقة البارزة في تاريخها الغنائي.
عام 1951 زار مصر المغني الفرنسي شوفاليية وطلب مقابلة أم كلثوم فدعته لزيارتها ، وعندما رآها لأول مرة تملكته الدهشة وأخذ يردد كلمة : مستحيل .. مستحيل .. ثم قال لها: “لقد سمعت اسمك في كل مكان زرته في الشرق فلم أرَ فناناً يتمتع بهذه الأرقام الضخمة من المعجبين المتحمسين ، ثم قال: أنت صغيرة السن جداً بالنسبة إلى العرش الذي تجلسين عليه”.
في مثل هذا اليوم شيع العالم العربي أم كلثوم ، يوم رحلت كانت قد أضحت أكبر بكثير من العرش الذي ما زالت تجلس عليه حتى يومنا هذا ، ألم يُبشر والدها بها في مسجد القرية عندما أخذته سنة من النوم في انتظار ولادتها ، فجاءته في الرؤيا امرأة باهرة النور أعطته منديلاً يضم في حناياه جوهرة خضراء متوهجة ، وعندما همت بالمغادرة سألها عمن تكون ، فالتفت قائلة:أنا أم كلثوم ابنة محمد رسول الله…ألم تولد في ليلة القدر، ألا تشي كل بداياتها في الإنشاد الديني وحفظ القرآن الكريم والسيرة النبوية المطهرة ، وقطعها الآلاف الكيلومترات لتنشد قصائدها في مدح النبي، ألا تشي كل هذه الأسماء التي دارت في فلك شمس صوتها كمنظومة كواكب أنها خلقت لشأن كبير ، لتسمو بأرواح سامعيها ولرفع الذوق العام ولتصفية الآذان من الخنا الذي تسمعه في الغناء… ومن حيث ابتدأتُ أنهي هذه الخماسية:
قالت أم كلثوم:”اعتقد أن أهم ما يُمكن أن يُكتب عني بعد موتي، أنني نقلتُ الجمهور من الإسفاف الغنائي الذي كان يعيشه..من أغاني:إرخِ الستارة اللي في ريحنا/أحسن جيرانك تجرحنا”..إلى مستوى “إن حالي في هواها عجب” و “الصب تفضحه عيونه” و “رباعيات الخيام” . وقد كان إصراري على خوض هذه المعركة، أنني، وأنا وافدة على القاهرة من ريف المنصورة، غنيتُ مرة للجمهور “سبحان من أرسلَهُ رحمةً لكل من يسمع”،فصفر الجمهور وراح يصيح:”عاوزين هات القزازة واقعد لاعبني”. وليلتها لم أغضب من الجمهور..فإنه معتاد على ما يُقدم إليه..وفكرتُ في أن أعوده على أشياء أخرى” . وقد فعلت أكثر مما أرادت.