هي مفارقة أن يكون آخر حديث أدلى به المخرج الراحل يحيا سعادة عن الموت قائلاً فيه: “لا أؤمن بالموت، بل باستمرارية الإنسان، أعرف أنني في حال فارقت الحياة سأنتقل إلى مكان أفضل” – (“الجريدة” الكويتية يوم الأحد 19 كانون الأول/ ديسمبر من حوار مع المخرج الراحل) ووحده يحيا يعرف الآن إن بلغ المكان..
الموت على أرض سفر، وفي توقيت سفر، وفي محطة قطار، وفي مقطورة تحديداً، كل هذا “الوقت والسفر” يحتشد في موت المخرج يحيا سعادة الذي يُشيعه لبنان وفنانوه اليوم وسيسير خلف نعشه زملاؤه الفنانون وكثير من معجبيه، وسيسير يحيا أمامهم إنما محمولاً على الأكتاف والأكف إلى مثواه الأخير، سيُقال الكثير من كلام الوداع أمام نعشه، وسيمدح إبداعه بالدموع، وسيظل الموت هو “الحقيقة الوحيدة” التي دخل زمنها يحيا سعادة، والسفر الأخير، وسترصد الكاميرا اللحظة واللقطة الأخيرة لكل إنسان، والنهاية المؤثرة لكل قصة.
يشبه يحيا سعادة ـ أعجبتنا آراءه أو أعماله أم لم تعجبنا ـ “المرور العابر” ، لكأنه جزء من قدره ذاك المرور الأول له أمام عين كاميرا نادين لبكي في فيديو كليب “يا سلام” لنانسي عجرم، “عابر مشهد” ترك مروره علامة تساؤل عن كونه مختلفاً، يومها صمم يحيا بنفسه ديكورات الكليب، ذاك المسرح الكبير كأنه الدنيا تخفي خلف قناع الابتسامة دموعاً وأحزان، مسرح يتناقض فيه مشهد الحياة ما بين خشبته أمام أعين الجمهور وفي كواليسه تسقط أقنعة الوجوه في غفلة من العيون.
تجرأ يحيا سعادة وكان وجهه من غير قناع، في مجتمع لعبته المفضلة الأقنعة.. تجرأ يحيا سعادة وتحدى ما يحمله اسمه من معاني، تجرأ يحيا وظل يُحذر فريق عمله، خاف على الجميع إلى أن صعقه قدره “لا يُغني حذر من قدر”، فقضى بسلك كهربائي حذر الجميع منه!
صور يحيا في أزمير، ربما كان يُخطط للتصوير في اسطنبول في محطة حيدر باشا إلا أن المحطة التاريخية التهم سقفها حريق في 28 تشرين الثاني/نوفمبر، كان قدره ينتظره في أزمير، وكان يُحيا سعادة يشبه ذاك السلك العاري الذي قبض على خطيه، لطالما أحدث صدمات “كهربائية” لمجتمع يفضل الكذب على الحقيقة.
اليوم يشيع لبنان مخرجاً شاباً رغم قصر أيام حياته استطاع أن يترك خلفه ضجيجاً غلبه بحكايته الجارحة، أثار فضول كثيرين، أحاطه همس كثيرين، وأحبة كثيرون، واحترمه كثيرون أيضاً، يرقد يحيا سعادة في ثراه، وسيطوي سفر الأيام نفسه يوماً بعد يوم، كان هنا يحيا سعادة، الآن سيصبح إلى الأبد هناك، سيلملم الحزن والفن الحكاية ويطويها ويُلقي بها في خزانة الأسرار، سيغادر المشيعون والمعزون وسيقفل دونهم ودون يحيا سعادة باب التراب، إلا مكاناً وحيداً سيبقى فيه يحيا حياً خلف جدار الحزن الكبير الذي ارتفع فجأة في قلب أمه.