على ما يبدو، ليست السينما اللبنانية وحدها من تعاني من شحّ في الانتاج الفكري، هذا اذا استثنينا الانتاج المادي، الذي لم يشكل يوما” سببا” جوهريا” دائما” لضعف قيمة العمل الفني أو لجودته، فالإنتاج المادي والتكاليف الباهظة لا يضيفا لمعانا” أو يخفيا عيوبا” ناتجة عن ضعف في السيناريو والاخراج أو الفكرة. أهم الأفلام التي نالت أوسكارات عالمية كانت محدودة التكاليف، ولطالما قيّمت الأعمال السينمائية استنادا” إلى الفكرة والاخراج والتصوير وقدرتها على التأثير بالمشاهد. وليس دليل على ذلك أكبر من هذا الكم الانتاجي العالمي الذي اقتحم صالات السينما اللبنانية في الفترة الأخيرة، ولم يلق أي استحسان أو استحباب لدى المشاهد وكل متتبعي السينما.
من هنا، وفي حين أني من متتبعي وهواة الحركة السينمائية لا أخفي قولا” أن أكثر من 80% من الأفلام المعروضة حاليا” جاءت مخالفة لكل التوقعات ودون المستوى المعتاد لناحية الأفكار والاخراج والسيناريو والحوار. دون الدخول في متاهة تقييم الأعمال الحالية ومقارنتها بسابقاتها.
وبين هذا وذاك، وحيث كانت انتاجاتنا الفنية في الفترة الأخيرة تفتقر إلى حبكة وحرفة النص والسيناريو، وهذا ما لمسناه في معظم الأعمال التي قدمت في الآونة الأخيرة، إذ عمد بعضهم إلى محاولة إخفاء هذه العيوب بشد أنظار المشاهدين إلى الإباحية الصارخة أو الفجور الاجتماعي في محاولة منهم لإيجاد ثغرة عبور إلى قلب المشاهد اللبناني، بعكس ما أسموه جزافا” “حقيقة واقع نعيشه”، وكانت النتيجة، أفلاما” مأساوية الولادة، ذات ردة فعل يصح بأن توصف “بالتراجيدية” غير المقبولة عند الجيل الجديد، ونخجل أن نقول عنها بأنها تمثل واقعنا أو تعكس جزءا” أساسيا” من ثقافة وعيش المجتمع اللبناني.
أمّا بعد إعطاء الخبز لـ “خبّازه”، وفي خضم ما تشهده الساحة اللبنانية من عودة خجولة للانتاج السينمائي اللبناني، تسلّل إلى الواجهة فيلم “غدي” لكاتبه الفنان جورج خباز ومخرجه أمين الدرة. مشاهد متناثرة لواقع نعيشه، وخيالات وإسقاطات صورية واقعية مختلفة من هنا وهناك عصفت بوجداني لدى خروجي من قاعة السينما، وكأن كاتبه أرادنا أن تجري هذه الإسقاطات في عقولنا دون حاجته لتصويرها.. ما أبدعه! سرعان ما جالت في خاطري قصة المؤلف الموسيقي العالمي موزارت (وولفغانغ أماديوس موزارت 1756-1791 مؤلف موسيقي نمساوي يعتبر من أشهر العباقرة المبدعين في تاريخ الموسيقى) حين استجداه أحدهم بكتابة وتلحين معزوفة تأبينية (موسيقى لقداس جنائزي) ولم يتمكن من تكملتها لتأثره بهذا الشخص وريبته حوله.. وكانت هذه آخر معزوفة يشرع بتأليفها موزارت ولم يستطع إنهائها بسبب موته فأكملها أحد تلامذته وكانت موسيقى جنازته، وهي الموسيقى نفسها التي استخدمها جورج خباز في خاتمة الفيلم. لا أعلم لماذا جالت في خاطري هذه القصة، لعل استشهاد جورج خباز بإبداع موزارت في عمره القصير- الطويل (35 عاما)، جعلني أفكّر بعقل “الخباز” الذي يبدو أنه انطلق في رحلة كتابته للسيناريو من قصة حياة موزارت الذي لم يمنعه مرضه وعجزه وعمره القصير (عانى من فشل وعجز كلوي، ونقص خلقي – ولد بكلية واحدة) من أن يغزو العالم بألحانه العظيمة مؤسسا” لمدرسة موسيقية فريدة تناقلتها الأجيال. مؤكدا” رسالة الخالق العظيم أن لا أحد فينا ناقص! وبأنه لكل منا دور في هذه الحياة. من هنا، ليس غريبا” أن يستشهد الخباز بقصة حياة موزارت وينطلق منها ليقدم رسالة اجتماعية نبيلة سامية مستعينا” بحالة الطفل إيمانويل خير الله (غدي) ذو الاحتياجات الخاصة.
مقاربة أو مقارنة “غديّنا” بالإنتاجات الأجنبية المعروضة حاليا” قد تبدو بعين البعض مقاربة غير مشروعة أو غير منطقية على النحو الذي سلف في المقدمة، بالنظر إلى تاريخنا الخجول وإلى استوديوهات ومطابخ وبلاد صناعة الأفلام الضخمة ذات الباع الطويل في هذا المجال. مقاربة كهذه قد لا تصح في نظر البعض، أما أن يحظى فيلم لبناني – لبناني، بنسبة مشاهدة عالية تتخطى التوقعات وأن يسجّل إعجابا” جماهيريا” منظورا” عند متتبعي السينما يزاحم فيها كل ما يعرض حاليا”، فتلك المسألة تجعلنا نعيد النظر بحقه في المقارنة الجدية مع هذه الإنتاجات المترافقة الضخمة، واضعين أمامنا معايير النجاح الحقيقية التي استطاع جورج خباز تحقيقها في هذا العمل.
نقاط متعددة ساهمت في إثراء مشروع “غدي” وجعلته يستحق أن يقال فيه أنه فيلم ذو رسالة اجتماعية، نموذجية، صادقة، نبيلة وهادفة، وأن يسجّل مكانة مرموقة ضمن باقة الأفلام الاجتماعية الفنية الهادفة! الفكرة (الموضوع)، السيناريو والحوار، التمثيل والأداء، الرسالة السامية والإخراج. وهذه النقاط ينبغي على المعنيين في وزارة الثقافة دراستها بتأن حين شروعهم بتقييم أو ترشيح هذا الفيلم لنيل الأوسكار، علما” أنه حصد الأوسكار الأكبر مسبقا” في نظر المتتبعين.
من حيث القصة والفكرة العامة، أبدع جورج خبّاز في تصوير وترميز مشكلات المجتمع اللبناني من خلال انطلاقه من مشكلة اجتماعية إنسانية خاصة ومحدودة لمعالجة مشاكل وأوبئة اجتماعية خطيرة غير محدودة، وبذلك يكون نجح في إعطاء الطابع العام لفكرة خاصة محددة هي في الحقيقة أكبر من مشكلة إنسانية. فالطفل غدي ذو الاحتياجات الخاصة والذي تواجه عائلته مشكلة عدم تقبل المجتمع الضيق لتواجده بينهم، ما اضطر والده إلى أن يكذب على الناس ليظنوا بأنه ملاك مرسل ليعاقبهم أو يجازيهم، ليس مجرد طفل ذو حاجات إنسانية، وإنما هو فكرة أكبر من هوية وأوسع من وطن، هو عبارة عن صيرورة الانسان فينا، اختبار لحق الحياة التي منحها الله لنا والتي له وحده حق سلبنا إياها وليس للإنسان إرادة في ذلك. امتحان لتقبل حق الاختلاف والتخلّف في آن.
ولأن كانت مسألة الإجهاض هي إحدى المشكلات التي تطرق إليها خباز، إلا أن الفكرة، بالتأكيد ذهبت به وبنا نحو أبعد من ذلك بكثير، نحو بقعة جغرافية أكبر من حدود ضيعة “المشكّل” كما أسماها في الفيلم، وأوسع من دائرة طائفة مسيحية معينة – حيث أنني أختلف مع من انتقد تحديد الشخصيات ونطاق أحداث الفيلم بقرية وشخصيات من طائفة مسيحية فقط، فمن قال أنه لزام علينا في كل أفلامنا أن نرمز إلى ذلك التعايش المشترك والشعارات التي بات إدخالها إلى أي عمل فني ينقص فيه أكثر مما يضيف له، بل يحتاج إلى مسلسلات وليس فيلم قصير؟ – والفكرة نفسها التي تحمل صراع الخير والشر تجسد حالة كل المجتمع اللبناني بكل أطيافه وفئاته، حتى أنك قد ترمز لغدي بزعيم طائفة أو دين أو زعيم سياسي، لـ “قضية غدي” دلالات وأبعاد ورسائل عدة، إجعله وتخايله كما تريد، فالصورة فضفاضة وتحمل الكثير الكثير من المعان، حتى شخصيات القرية لكل منها حكاية خاصة تجعلك تعيد النظر في واقع كل منا كبشر. كلنا خطاؤون وكلنا ملائكة، ولكل منا الحق في العيش بكرامة وحرية وإنسانية، وليس لأحد منّا منة على أحد فكلنا راع وكلنا مسؤول والرب شاهد ومبارك لكل منا بحسب نواياه وأفعاله.
هكذا استطاع خباز أن يخرج من قوقعة السينما اللبنانية التقليدية السائرة على خطى تصوير الشارع العام بوجهيه، الديني – الطائفي، والصراع السياسي “الفطري”، أو بوجهه المشوب بالعيوب الثقافية والأوبئة الاجتماعية الخطيرة من خلال مشهديات إباحية فاقعة لا تليق بنا، استطاع أن يخرج من هذا كله إلى تصوير كل هذا أو كل ما هو مراد من ذلك من خلال مسألة انسانية اجتماعية نبيلة. وما أروعه باستخدام أجمل وأهم وسائل التأثير في المتلقي وهي “الموسيقى” و “الرسالة الاجتماعية”، من دون أن يهمل أدق التفاصيل في تصوير ونقل صورة حقيقية للمجتمع اللبناني وإن كان من زاوية قرية “مشكّل” الضيقة نسبيا”، ليشمل بها كل المجتمع.
ولد “غدي”، من رحم فنان مثقف معاصر يبحث فوق حطام عريّ المجتمع عن قضية نبيلة. وأبرز ما يعزز مواطن النجاح في هذا الفيلم هو التأن في اختيار المصطلحات والحوار الطبيعي المنمّق والذي لا يخدش الحياء ولا يؤذ أذن المتلقي بأسلوب مجرد وواضح وقادر على إيصال الرسالة بسرعة ووضوح. في “غدي” لا مشاهدَ مبتذلة، لا مشادات كلامية مستهلكة، لا حوارات مملة، ولا استخدام لألفاظ ومصطلحات نابية لإضفاء أجواء “شوارعية سوقية”.. لا حاجة لكل ذلك أصلا” مع جورج خباز الذي برع وأبدع في توزيع الأدوار وتشكيلها وتنويع الشخصيات وأعطى بذلك كل شخص حقه… وأكثر. أجاد المخرج والكاتب والمنتج في اختيار الممثلين والشخصيات الرئيسية التي تألقت بأداء أدوارها بشكل يتناسب مع المستوى الفني الذي نطمح بالارتقاء نحوه.
ومن الناحية الإخراجية، يبدو جليا” أن المخرج ابتعد عن محاولات الاستعراض الفني المعتمدة في بعض الأفلام والتي تكون غالبيتها دون جدوى، فهو أراد إيصال الرسالة واضحة كما هي، القرية صغيرة وهادئة ومواقع التصوير مناسبة جدا”، وحركة الكاميرا مدروسة بدقة كتصوير لا يعتمد استعراض العضلات، ويتناسب مع الأجواء العامة المعكوسة بحسن اختيار الألوان بعناية وجودة عالية في الصورة والإضاءة. بالاضافة إلى حسن اختيار الأزياء المناسبة لشخصيات الفيلم.
مع “غدي” نستطيع أن نقول بصوت عال: بات لنا في السينما قضية! قضية سينما لبنانية تسمو إلى العالمية، سينما عاجزة كانت، أو بالحد الأقصى تفتقر للنص، قبل ولادة “غدي”. نجاح آخر يسجل لنا للبناننا وللفنان جورج خباز وفريق عمله بالكامل، وإذا كان موزارت قد مهد لحقبة موسيقية انتقالية جديدة في عهده، فإن “غدي” بشّر بولادة حقبة جديدة من السينما اللبنانية عبر هذه الأعجوبة الواقعية التي ولدت من رحم وطن لطالما اتهم بعجزه عن تقديم هكذا أعمال نأمل في أن تكمل مسيرتها بخير.