نحتفل هذه الأيام بحلول عام جديد علينا، لكن الأعوام،
كالأسابيع والأيام والساعات والدقائق والثواني، تمر من دون أن تحمل معها تغييراً
نحو الأفضل في وطننا لبنان وعالمنا العربي. فالأمور لا تزال هي هي، كأنما
اللبنانيون والعرب مكتوب عليهم أن يعيشوا خارج الوقت. إنه الوقت الذي يمر من دون
أن نشعر به، إنه الوقت الذي نضيعه في انتظار حلول عجائبية، ونضيعه في إعطاء مواعيد
لا نلتزم بها، ونضيعه في اجراء مقابلات لفنانين لا يستأهلون دقيقة من عمرنا،
ونضيعه، ونضيعه.
يبدو أن الفن لا يحترمنا لأننا لا نحترمه. فكيف يأتي تغيير
المستوى الفني إن كنا نحن لا نسعى إلى التغيير، نحن أهل الصحافة، ربما لا نرغب فيه
بما يتجاوز الأمنيات اللفظية؟ نحن نقول إننا نريد الفن الاصيل والقلم النظيف
واحترام الذات، ولا نفعل شيئاً في هذا الاتجاه إلى درجة أن من يسمعنا قد يظن أننا
لا نريد هذه المُثُل فعلاً.
كثيراً ما نسمع، ولاسيما ممن يكبروننا سناً، أن الفن
يتراجع، فبعد أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفيروز ووديع الصافي وغيرهم، انحدر
المستوى إلى أن ساد “الكلام الفارغ” والموسيقى الصاخبة.
فالبعض يرى ان الغناء المسمى طربياً كان يصلح لزمن مضى،
رغم أنه يبقى في الذاكرة لأنه جميل وراق. والأغنية المسماة شبابية تصلح لهذا
الزمن، ويبقى الوقت حكماً على جودتها الكفيلة ببقائها في الذاكرة.
ومن اللافت على الساحة الفنية هذه الأيام الغياب شبه
الكامل للرقص الشرقي، خصوصاً الظاهرة التي عرفها العالم العربي في التسعينات
والمتمثلة بالصعود السريع لراقصات متعددات المواهب. ومع ان الصعود السريع يتبعه
سقوط سريع أو حتى أسرع، ومع ان الراقصات الشرقيات المحترفات، البعيدات من الهز
الرخيص انقرضن في عصرنا، ولم يبق منهن سوى القليل، فإن اختفاء الراقصات يدعو إلى
الاستغراب. فالناس لم يعودوا يرون إعلانات ضخمة عن “نجم” سيغني في مربع
ليلي ما وإلى جانب صورته وهو “يبتسم” صورة لراقصة في ذروة الهز وتعليق
عن مشاركة الراقصة النجم حفله.
يبدو ان الرقص الشرقي كمهنة أو هواية مستقلة لم يعد له
وجود، فهناك نجمات يهززن أوساطهن وهن يرنّحن أمام الجمهور، فما الداعي لراقصة إذا
كانت المغنية راقصة في الوقت نفسه؟ ومثلما استبدلت الأوركسترا المرافقة للمغني،
والتي بدأت “تختاً شرقياً” من أربع آلات فخمس فست، لتتحول إلى أوركسترا
تكاد تكون سمفونية مع أم كلثوم وفيروز وعبد الحليم، بآلتين موسيقيتين كهربائيتين،
وأحياناً آلة الأورغ لوحدها، لماذا لا يُستعاض عن الراقصة والمغنية بمغنية ترقص أو
راقصة تغني؟
وعلى سبيل المثال، أعجب ملك مصر الراحل فاروق، في إحدى
سهراته براقصة، فقيل له إنها مقربة من الفنان فريد الأطرش، الذي خاف من احتمال
دخوله في منافسة مع الملك، وبالتالي يخسرها إلى الأبد. لكن الملك، الذي كان يذبح
بظفره كما يقول المثل، أبى دخول منافسة من هذا النوع، لأن الأطرش كان سبقه إلى كسب
ود الراقصة، فاحترم الملك ذلك.
أما اليوم، فلو دخلت أيها المواطن الصالح في منافسة مع
“بادي غارد” لـ “بادي غارد” لـ “بادي غارد” تابع
لفنان من الوزن الثقيل يتبع سياسياً من الدرجة العاشرة، لا على “راقصة”
بل على موقف سيارة، فالويل والويل، عليك طبعاً، لا على خصمك.
أما علاقة الفنان بالصحافة، فهي علاقة مزيفة، قائمة على
مصالح خاصة، ولمن يخالفنا الرأي من الزملاء، نقول له أنت حرّ إنما هذا ما نلمسه
يوما بعد يوم. فـ”النجوم” يتصلون بك حين يحتاجون اليك فقط، ومن النادر
جداً، ان تتلقى اتصالاً من “فخامتهم” للاطمئنان عليك او لمجرد القاء
التحية، والمؤسف أيضاً ان زمن الميلاد حلّ، والكثير، الكثير منهم لم يتعب نفسه
للاتصال او ارسال رسالة معايدة، ما يصح فيهم القول انهم قوم بلا وفاء، يفتقدون الى
الاخلاق والانسانية، وما يؤكد لملايين الناس انهم يهوون المصلحة، وربما يتنفسونها،
علماً ان أخبارهم تزيّن صفحاتنا، وهم بحاجة الينا لكي نروجها، كما انه، وفي الكثير
من الاحيان يتصلون بنا، لنتبنى بعض الاشاعات والاخبار، كما يسربون اخبار زملائهم،
وطبعاً كل هذه الامور، كما يصفونها لخدمة الصحافة.
قررنا الا نسكت عنهم، فمن أراد أن نحترمه عليه أن يحترمنا،
فعلى أي صحافي حقيقي، أن يعشق هذه المهنة، فهي المهنة التي نتنفس من خلالها
الحرية، واحترام الذات، والمحبة وحب الآخرين، علماً ان الجلوس على كرسي المكتب
يزرع في داخلنا أحياناً، إحساس السجين في قفص صغير بارد الإحساس… فنثور على
مكاننا ونشعر بالأصفاد تطوق يدينا الاثنتين، فنحاول الهرب وننجح بفرارنا لنختفي
لبضع دقائق، لكن الحنين يعيدنا إلى قفصنا، فنطلق العنان لأنفسنا، ونكتب اجمل الكلمات.
جئنا إلى هذه الحياة لنعيش أحراراً ونغرد على مسامع
الآخرين آراءنا وتطلعاتنا، ويفاجئنا البعض وربما كثيرون بأنهم لم يعودوا يهتمون
لما نقوله… ومثال على ما نقول، حين يتصل بنا أحد الفنانين ويعاتبنا على صورة
منشورة له لم تلق إعجابه، ناهيك عن أن “فخامته” لم يقرأ الموضوع، بل جل
ما يهمه هو صوره المنشورة… فماذا برأيكم نقول له حين نعلم بسذاجته وجهله وثقافته
المعدومة؟ لا شيء، نتوقف عن التعامل معه لأنه وبكل بساطة لا يستأهل القلم الذي
يجعل منه فناناً حقيقياً!
ربما يصح فينا، نحن معشر اللبنانيين، قول الشاعر: “كنا كما نتمنى…
فلم يعد من تمنٍّ”، علّنا نشهد عودة الحياة الفنية الطبيعية عودة دائمة،
وعلّنا، نحقق ما نتمنى، ولا يبقى التمني تمنياً أو يُمحى نهائياً من عقولنا
وقلوبنا