ويصادف صدور الكتاب أيضاً اقتراب الذكرى الثالثة لإعدام صدام في الثلاثين من ديسمبر سنة 2006.
وكان هذا الطبيب الجراح مكلفاً بتقديم الخدمات الطبية لفريق مكون من ستمائة عسكري أوكلت اليه مهمة اعتقال صدام بعد ورود معلومات عن اختبائه في حفرة خارج بلدته تكريت.
يقول في مقابلة صحفية، انه كان موجوداً في طائرة هليكوبتر تحلق فوق الهدف، في حالة استعداد تام لتقديم الخدمة الطبية للمصابين، في حال وجود إصابات بين العسكريين من كتيبة العمليات الخاصة رقم 160 التابعة للفرقة الأولى المحمولة جواً.
يضيف ان كتيبة العمليات الخاصة قامت قبل تلك الليلة بمئات المداهمات أملاً في القبض على صدام وغيره من كبار قادة النظام، لكن المهمة في تلك الليلة كانت مختلفة بعض الشيء، فالمعلومات التي وصلتنا هذه المرة تبدو أكثر صدقية وفي الإمكان الاعتماد عليها.. ففي الماضي كنا نغير على حفر في المنطقة لكننا في النهاية نطلق عليها وصف «الحفر الجافة» أي أنه لا يوجد أحد فيها.
ويستطرد قائلاً انه لحسن الحظ لم يقم بأي عمل طبي في تلك الليلة، فقد تم اعتقال صدام من دون إطلاق رصاصة واحدة، لكنه يشير إلى أنه بوجوده في طائرة الهليكوبتر في تلك اللحظات التاريخية، كان على اتصال دائم مع العسكريين على الأرض عبر اللاسلكي، وكان يسمع صيحات الابتهاج التي تصم الآذان، فما كان منه إلا أن انضم للمحتفلين على طريقته فراح يرقص ابتهاجاً مع أفراد طائرة الهليكوبتر.
الفحوصات الطبية
عقب اعتقال الدكتاتور، تم نقله بطائرة هليكوبتر إلى أحد مقرات الاستجواب لتنظيفه وحلق شعر رأسه ولحيته ولإجراء الفحوصات الطبية اللازمة بواسطة فريق طبي وصل لتوه إلى بغداد، فقد تم تكليفي بالبقاء في الهليكوبتر فوق منطقة الحفرة، لأن العسكريين واصلوا عمليات التفتيش أملاً في العثور على صيد ثمين آخر.
يضيف: بعد يومين، غادر الطبيب الذي قام بالفحوصات الأولى وبقي صدام وحيداً في الزنزانة مع مترجم.. هنا، جاءني قائد القوات الخاصة وقال: مارك.. هل تقبل الذهاب والجلوس معه.. أريد طبيباً يظل موجوداً معه طوال 24 ساعة، كل يوم.
كان الوقت يقترب من منتصف الليل.. فذهبت إلى زنزانة صدام حيث أمضيت الليلة معه برفقة المترجم.
صدام لا يقل عن هتلر
عن تلك الليلة، يقول الدكتور مارك غرين: لقد سيطرت علي فكرة أن الرجل لا يقل خطورة عن أدولف هتلر أو جزار كمبوديا بول بوت.. رجل بلا قلب.. دكتاتور قتل مئات الآلاف.. وها أنا أجلس إلى جانبه نتبادل الحديث.
يصف الزنزانة بأنها غرفة صغيرة 16 × 10 أقدام.. كنت جالساً أمام طاولة صغيرة، أما صدام فكان مستلقياً على سرير نقال.. فأومأ إلي بأن أقترب منه وطلب مني بالإشارة أن أفحص ضغط دمه.. عندما تقيس ضغط دم شخص ما تكون قريباً جداً منه.. وجهان متقابلان.. فراح يتفحصني ورحت بدوري أتفحصه، وهنا قال لي انه في طفولته كان يحلم بأن يصبح طبيباً.
أصابني الذهول.. هل يعقل أن يؤدي شخص بمواصفات هذا الدكتاتور القسم الطبي.. لكن هذا ما قاله الرجل.
اعتدل صدام في جلسته، ورحت أسأله عن موضوع الطب ودراسة الطب.. كان يتحدث بالعربية وأنا بالإنكليزية، ويقوم المترجم بالمهمة بيننا.
انتقلنا للحديث عن سبب انضمامه لحزب البعث.. وإلى أين ذهب بعد فراره من العراق بعد محاولته اغتيال عبد الكريم قاسم. فقال ان سوريا كانت وجهته الأولى قبل أن يغادرها إلى مصر.. وأضاف انه في مصر أقام علاقة وثيقة مع الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.. لكن الطبيب الأميركي يشك في رواية صدام فيقول انه ربما أراد بذلك أن يربط نفسه بالزعيم العربي الذي أعاد للعرب الكثير من الثقة بالنفس والكبرياء وكأنه يريد الظهور بصورة القائد الذي سيوحد العرب.
سألت صدام عن سبب غزوه إيران ومن ثم الكويت.. وحول هذا الموضوع دار نقاش طويل استمر خمس ساعات تقريباً.
يقول الطبيب الأميركي انه لا بد من الاعتراف أن صدام كان في حديثه ساحراً متيقظاً لكل كلمة يتفوه بها. جلس بكل وقار وقد وضع ساقاً على ساق وكأنه مؤرخ يستعد لتدوين مجموعة من الحقائق والمواقع. شعرت أني تلميذ يدرس التاريخ على يديه. طرحت عليه عدداً هائلاً من الأسئلة لأن أحداً لم يقل أن طرح الأسئلة ممنوع. كما أن الرجل راغب في الكلام ولو تواصل الليل مع النهار.
لكن ماذا عن الموضوع الذي أثار انتباه الطبيب أكثر من غيره من خلال الحديث مع صدام طوال تلك الليلة؟
يقول الدكتور مارك غرين ان أكثر ما شد انتباهه في حديث صدام ما أشار إليه عن الصفقة التي أبرمها مع آية الله الخميني يوم كان يعيش لاجئاً في كربلاء أيام حكم الشاه. وكان صدام في ذلك الوقت نائباً للرئيس أحمد حسن البكر.
يقول صدام انه ذهب إلى كربلاء حيث التقى الخميني وقال له : لنعقد صفقة بيننا. يمكنك البقاء هنا إلى أي وقت تريد، لكن إذا تمكنت من العودة إلى إيران والسيطرة على الوضع يتوجب عليك أن تتنازل عن شريط ساحلي لكي نتمكن من تصدير نفطنا بسهولة أكثر.
يقول صدام ان الخميني وبعد عودته إلى إيران تراجع عن الصفقة، وهذا هو السبب وراء الحرب على إيران. لقد نكث الخميني العهد الذي قطعه على نفسه في كربلاء.
قرابة الخامسة صباحاً جاء إلى الزنزانة قائد القوات الخاصة، أما صدام فقد واصل الحديث. وهنا قال القائد: دعنا نصور هذا اللقاء بينكما. ولكن عندما حضر المصور ومعه الكاميرا توقف صدام عن الحديث وأخفى رأسه بغطاء السرير وما لبث أن غط في النوم.
وفي الصباح، حضر الطبيب الذي سيقوم بمهمة البقاء مع صدام فغادرت الزنزانة وأمضيت بعض الوقت أتابع على التلفزيون لقطات اعتقال الدكتاتور وكيفية إخراجه من حفرة العقرب واقتياده إلى الهليكوبتر ومن ثم وصوله إلى مركز الاستجواب.
أما الدكتور مارك غرين، فقد عاد إلى الولايات المتحدة بعد ذلك بأيام لقضاء عيدي الميلاد ورأس السنة مع أسرته قبل أن يسافر مجدداً إلى أفغانستان هذه المرة.