العظماء الذين يتركون إرثاً لا ينتهي، لا ينتهون هم أيضاً ولا يموتون برحيل أجسادهم، فكيف الحال إن تركوا عدا عن الإرث أبناءً يتابعون المسيرة ويضيفون إليها أكثر فأكثر، وهذه هي حال الراحل منصور الرحباني الذي إحتفلت عائلته واللبنانيون بذكرى رحيله الرابعة، وكذكك هي حال أبنائه أوساما، غدي ومروان الرحباني..
ولا شك أن أهم أعمال الثلاثي الرحباني بعد رحيل منصور هي مسرحية “دون كيشوت” التي يتحدث عنها أوساما الرحباني بشغفٍ بالغ، إذ لا تنضب كلماته ولا تخفت حماستُهُ مهما طال الحوار، وهي التي تمت إعادة تقديمها في عرض خاص للصحافة في ذكرى المعلم الكبير الراحل..
ولمن لم يعرف بعد فـ “دون كيشوت” شخصية روائية إسبانية عاشت في هوس فكرة الفارس المقدام الذي يحمي الناس، إلا أنّه ظهر في عصر إنقرضت فيه الفروسية حين صارت إسبانيا مملكة تضطهد وتسيطر على الشعب، لذا ظهر “دون كيشوت” خارج قالب المجتمع وخارج المنظومة المتعارف عليها..
المسرحية لم تخرج عن الهوى الرحباني الأصلي وهو العودة إلى التاريخ لتفسير وقائع حديثة، إلا أنها كانت حديثة في طريقة تنفيذها سواء من ناحية الموضوع، الإعداد الفني، الرقص والإضاءة وفريق العمل المتكامل والموسيقى والغناء وكل العناصر التي ملأت المسرح على الرغم من ضخامته..
في المسرحية أيضاً مواقف توحي بالكثير، فالطواحين التي تظهر على شاشات عملاقة هي الـ “سيستيم” المسيطر والمهيمن والذي يبتلع في النهاية “دون كيشوت” وأحلامه، هذا إضافة إلى مشهد حرق مكتبة “دون كيشوت” وحرق المكتبة أراد منه الثلاثي الرحباني حسبما أخبرنا أوساما أن يعكس الـ “سيستيم” المسيطر الذي يحرق الفكر والثقافة والقلب..
إذاً وحسب شرح أوساما الرحباني، فإنّ “دون كيشوت” حالم، مهلوس، عبقري، مفكر، ناقد، تهكمي، حقيقي ومجنون، وتعكس لنا المسرحية أيضاً شخصية ديما في الواقع أو دولسنيا في الحلم وهي الشخصية التي تلعبها هبة طوجي وهي الـ pole dancer أو الراقصة – النادلة في البار، التي يظنّها “دون كيشوت” حبيبته وينتدب نفسه للدفاع عن شرفها وكيانها، ليكتشف لاحقاً بأنها جزء من المجتمع بكل ما فيه من فساد!
وعلى سيرة هبة طوجي، فلم يبقَ أحد ولم يثنِ على آدائها غناءً ورقصاً وتمثيلاً، أما أوساما الرحباني فيقول عن هبة: ” الدور الذي أدّته هو الأصعب على الإطلاق لإمرأة”، ولم يكن أحد ليعرف كيف ينفّذه إلا هبة، فمقدرتها هائلة في الرقص الدرامي وهي من أهم النساء في هذا المجال”..
إذاً.. “دون كيشوت” ليست إلا البداية للثلاثي الرحباني بعد رحيل “المعلم” وننتظر منهم الأعظم بعد!