كان جمهوره في موطنه الأم، ينتظره في مثل هذه الفترة من كل عام، عندما كان يطل عليهم ليُحيي أجمل سهرات “شم النسيم”، على غرار اليوم، فهم قد حُرموا من دفئ صوته، رقة مشاعره وشموخه حيال القضايا الوطنية… عبد الحليم حافظ، ظاهرة فنية رافقت الأجيال في نشأتها، صاحب المئتي والثلاثين أغنية والست عشر فيلماً سينمائيا… كتب له القدر أن يعيش النجومية والتألق من جهة، ويمسي طريح الفراش أسير الكفن بعد رحلة علاج في لندن، تلفز خلالها أنفاسه الأخيرة.
رغم مرور كل هذه الأعوام، إلا أن أي من الفنانين وسائر النجوم لم يستطع الإطاحة بهذا الملك السرمدي في إحساسه وذكراه، وبعد مرور حوالي الثلاثة عقود ونيف من العمر، لا تزال أغنياته حتى لو في “ريمكس” بسيط، تعكس الرومنسية الحالمة، والتي لو غناها جيل اليوم، فقدت من أفهومها ومعانيها الدفينة، ولا نغض الطرف، عن أن مع إندلاع الثورة المصرية، وما تبعها من ثورات وفتن، عادت أغنيات عبد الحليم إلى الواجهة أبرزها “صورة” أو “أحلف بإسمها وبترابها” اللتان أصبحتا أشبه بنشيد الثورة والذي تسير القافلة على وقع ترداده.
لم تكن حياة عبد الحليم سهلة وردية، كما غناها، فهو منذ ولادته حُرم من والدته، ونشأ يتيماً متنقلا بين الميتم ودارة خاله الحاج متولي عماشة. هو من عبر عن إستياءه الذي خلق له فرحاً لا متناهي “أنا إبن القدر”، وقد أصيب بمرض البلهرسيا، ليُجري على مر سنين حياته حوالي الواحد والستين عملية جراحية. التحق بمعهد الموسيقى العربية قسم التلحين عام 1943، ورُشح للسفر في بعثة حكومية إلى الخارج لكنه ألغى سفره وعمل 4 سنوات مدرساً للموسيقى في محافظة طنطا لينتقل بعدها إلى القاهرة. يُمكن أن ننعت نجاح عبد الحليم، وننسب ولادته وإنطلاقته الفنية إلى أثير الإذاعة المصرية، وقد عرف نجاحا كبيرا يوم إعلان الجمهورية المصرية في حزيران 1953 عندما غنى “صافيني مرة” لتكر سبحة النجاحات المتتالية والمتقطعة النظير في ” على قد الشوق”، ” ذلك عيد الندى”، ” أقبل الصباح “، ” مركب الأحلام “، ” هل الربيع ” وغيرها… لكن مع تطور حالته المرضية، بدأ التفاؤل الذي نقله عبد الحليم إلى الجمهور في أغنياته ، يندثر لتطيح به نبرة الحزن والتشاؤم .
كتب الكثيرون عن “لغز حبيبة عبد الحليم” والتي أهداها كل أغنياته، فناداها وقال لها “اهواك وأتمنى لو أنساك” والتي حفظها الناس عن ظهر القلب وتناقلوها في ما بينهم وصولاً إلى يومنا هذا؛ كان عبد الحليم يفرض سرية تامة حول علاقاته الغرامية ، ولم يكن يسمح لأصدقائه بالدخول في أي من تفاصيلها، رغم أنه كثر الحديث عن حبه وعشقه لـ”سلوى” المستمعة الأولى لصوته حينما كان مدرسا، وقيل في فترة لاحقة أنه إرتبط بفتاة من أصول سعودية في حين بدأت تلك القصة تطفو على السطح في منتصف آذار من العام 1977 أي قبل رحيل حليم بخمسة عشر يوما، وكان حليم في مستشفى كينغر كوليج في لندن.
“كراسة الحب والوطنية” هو ما بقي اليوم في أرشيف الأغنية العربية لعبد الحليم، بعد أن جمع له صديق عمره مجدي العمروسي عدد كبير من الأغنيات التي قدمها؛ رغم الشهرة الكبيرة التي حققها عبد الحليم في العصر الذهبي للأغنية العربي، والمصرية بالتحديد، إلا أن عددا كبيرا من أغنياته ظل غير معروفا وأطلق عليه لقب “تراث عبد الحليم المجهول”، وقد قُدر عدد هذه الأغنيات إلى نحو 110 أغنية تقريباً.
ولا بد من الحلم أن ينتهي، وكان ذلك يوم الأربعاء في الثلاثين من آذار مارس من العام 1977، في لندن بعد رحلة طويلة غير مجدية من العلاج للمرض الذي أصابه (البلهرسيا)، إنتهت بتلويث دمه عبر نقل وحدات دم من شخص يعاني من إلتهاب كبدي… وغاب عبد الحليم، حمل نعشه على الأكف في جنارة لم يعرف لها التاريخ العربي مثيلاً وقد بلغ عدد الأشخاص المشاركين فيها حوالي المئتين وخمسين ألف شخص، بدا التأثر واضحاً على وجوههم!