تاريخ رؤيـة الهلال
“أيها
الناس قد أظلّكم شهر عظيم”، على مر العصور اختلفت مظاهر رمضان ، فكان لكل عصر
سمات وعادات ومظاهر خاصة به، منها ما استمر وبقي ومنها ما اندثر وأصبح في طي النسيان،
على عادة الإنسان وتغيّر عاداته .
يقول المؤرخ إبراهيم عناني عضو اتحاد المؤرخين العرب أنه في
عام 155هـ خرج أول قاضي لرؤية هلال رمضان وهو القاضي أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة
الذي ولي قضاء مصر، خرج لنظر الهلال ، وتبعه بعد ذلك القضاة لرؤيته؛ حيث كانت تُعَدُّ
لهم دِكّة على سفح جبل المقطم عرفت بـ ” دِكَّةُ القضاة”، يخرجون إليها لنظر
الأهلة، فلما كان العصر الفاطمي بنى قائدهم بدر الجمالي مسجداً له على سفح المقطم واتخذت
مئذنته مرصدًا لرؤية هلال رمضان.
وفي القرن الثالث الهجري اهتم أحمد بن طولون بأمر العمّال خاصة
في شهر رمضان، فقد خرج مرة لزيارة مسجده وقت
بنائه، فرأى الصناع يشتغلون إلى وقت الغروب،فقال:متى يشتري هؤلاء الضعفاء إفطارًا لعيالهم،
اصرفوهم العصر فأصبحت سنة من ذلك الوقت، فلما فرغ رمضان قيل له:لقد انقضى رمضان فيعودون
إلى عاداتهم فقال:”قد بلغني دعاؤهم وقد بركت به وليس هذا مما يوفر العمل“.
العصر الفاطمي
في العصر الفاطمي بمصر كان يُعهد للقضاة بالطواف بالمساجد في
القاهرة وباقي الأقاليم؛ لتفقُّد ما تم إجراءه فيها من إصلاح وفرش وتعليق المسارج والقناديل،
حتى إن الرحالة “ناصر خسرو” الذي زار مصر في القرن الخامس الهجري وصف
“الثريا” التي أهداها الخليفة الحاكم بأمر الله إلى مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط
بأنها كانت تزن سبعة قناطير من الفضة الخالصة، وكان يوقد به في ليالي المواسم والأعياد
أكثر من 700 قنديل، وكان يفرش بعشر طبقات من الحصير الملون بعضها فوق بعض، وما إن ينتهي
شهر رمضان حتى تُعاد تلك الثريا والقناديل إلى مكان أعد لحفظها فيه داخل المسجد، كما
أن الدولة في ذلك الوقت كانت تخصص مبلغًا من المال لشراء البخور الهندي والكافور والمسك
الذي يصرف لتلك المساجد في شهر الصوم .
أمّا الأسواق التي كانت تنشط فيها الحركة التجارية خلال شهر
رمضان فيقول عنها المؤرخ إبراهيم عناني: إن سوق الشمّاعين بالنحّاسين من أهم الأسواق
خلال القرنين الثامن والتاسع الهجريين، فكان به في شهر رمضان موسم عظيم لشراء الشموع
الموكبية التي تزن الواحدة منها “عشرة أرطال” فما دونها، وكان الأطفال يلتفون
حول إحدى الشموع وبأيديهم الفوانيس يغنون ويتضاحكون ويمضون بموكبهم المنير في الحواري
من بعد الإفطار حتى صلاة التراويح..
أما عن “سوق الحلاويين” الذي كانت تروق رؤيته في
شهر رمضان، فكان من أبهج الأسواق ومن أحسن الأشياء منظرًا؛ حيث كان يصنع فيه من السكر
أشكال خيول وسباع وغيرها تسمي “العلاليق“.
وكان هناك أيضًا سوق السمكرية داخل باب زويلة “بوابة المتولي
بالغورية”، فيعجُّ بأنواع “الياميش” و”قمر الدين”، وكانت
وكالة “قوصون” شارع باب النصر التي ترجع إلى القرن الثامن الهجري مقر تجار
الشام ينزلون فيها ببضائع بلاد الشام من الزيت والصابون والفستق والجوز واللوز والخروب..
ولما خربت وكالة قوصون في القرن التاسع انتقلت
تجارة المكسرات إلى وكالة مطبخ العمل إلى حيّ الجمالية، وكانت مخصصة لبيع أصناف النقل
كالجوز واللوز ونحوهما..
كما كان يتم عرض أنواع الحلوى مثل “القطايف” و”الكنافة”؛
إذ يقال إن الكنافة صنعت خصيصًا للخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، كما قيل: إنها
صنعت للخليفة معاوية بن أبي سفيان، وكانت الكنافة والقطايف موضع مساجلات بين الشعراء
فجلال الدين السيوطي له رسالة عنوانها: “منهل اللطايف في الكنافة والقطايف“.
ولم تكن مظاهر الاحتفال وما يقدم على الموائد فحسب.. بل كان
لها تقاليد رسمية، فقد كان الخليفة يخرج في مهرجان إعلان حلول شهر رمضان من باب الذهب
“أحد أبواب القصر الفاطمي”، متحليًا بملابسه الفخمة وحوله الوزراء بملابسهم
المزركشة وخيولهم بسروجها المذهبة، وفي أيديهم الرماح والأسلحة المطعمة بالذهب والفضة
والأعلام الحريرية الملونة، وأمامهم الجند تتقدمهم الموسيقى، ويسير في هذا الاحتفال
التجار صانعو المعادن والصاغة، وغيرهم الذين كانوا يتبارون في إقامة مختلف أنواع الزينة
على حوانيتهم فتبدو الشوارع والطرقات في أبهى زينة..
وكان موكب الخليفة يبدأ من بين القصرين “شارع المعز بـ
“الصاغة الآن”، ويسير في منطقة الجمالية حتى يخرج من باب الفتوح “أحد
أبواب سور القاهرة الشمالية”، ثم يدخل من باب النصر عائدًا إلى باب الذهب بالقصر،
وفي أثناء الطريق توزع الصدقات على الفقراء والمساكين، وحينما يعود الخليفة إلى القصر
يستقبله المقرئون بتلاوة القرآن الكريم في مدخل القصر ودهاليزه، حتى يصل إلى خزانة
الكِسْوة الخاصة، فيغيِّر ملابسه ويرسل إلى كل أمير في دولته بطبق من الفضة مملوء بالحلوى،
تتوسطه صرة من الدنانير الذهبية وتوزع الكِسْوة والصدقات والبخور وأعواد المسك على
الموظفين والفقراء، ثم يتوجه لزيارة قبور آبائه حسب عاداته، فإذا ما انتهى من ذلك أمر
بأن يكتب إلى الولاة والنواب بحلول شهر رمضان.
وكان الخليفة الفاطمي يصلي أيام الجمعة الثلاث: الثانية والثالثة
والرابعة على الترتيب التالي: الجمعة الثانية في جامع الحاكم والثالثة في الجامع الأزهر،
أما الرابعة التي تعرف بالجمعة اليتيمة فكان يؤديها في جامع عمرو بن العاص بالفسطاط،
وكان يصرف من خزانة التوابل ماء الورد والعود برسم بخور الموكب والمسجد، وعقب صلاة
الجمعة الأخيرة من رمضان يُذاع بلاغ رسمي عرف بسجل البشارة، وآخر ليلة من الشهر الكريم
كان القراء والمنشدون يحيونها بالقصر الشرقي الكبير والخليفة يستمع من خلف ستار، وفي
نهاية السهرة كان الخليفة ينثر على الحاضرين دنانير الذهب.