يحتفل العالم الليلة بعيد الميلاد المجيد، ولا يبقى من الأعياد إلا صدى أغنية تداهمنا حتى لو كنا ننزوي على هامش عالم تحجّرت فيه كلّ المعاني السامية والروحية للأعياد مهما “شعشعت” أضواء وتزينّ الشجر بالأحمر والأخضر ولمعان الذهب والفضّة وندف الثلج… تظل الأغنية تختصر المشاعر وتفرض علينا الابتسام رغم أنفنا ويغمرنا رغم أنف التعب الذي قد يعترينا، ليؤكّد لنا أن “روحانيّة” العيد تُبارك القلوب والأجواء ، وأن أجراسنا ستقرع فرحاً واستبشاراً منتصف هذا الليل ، وأن الأغنية ما زالت سيّدة الفرح الساكن في قوافي الذاكرة. يحلّ الميلاد على لبنان الليلة من دون ثلج ، وبرغم الصحو يأتي صوت فيروز ليردّنا إلى حيث كنّا نقف أمام الشاشة صغاراً مبهورين بالسيّدة التي نجعل الثّلج يتساقط فوق رؤوسنا الطفلة ويلفّ البياض الساحر الناصع أمكنتنا وبيوتنا كلّما همس صوتها بشعر ولحن الأخوين رحباني:” تلج تلج عم بتشتي الدنيي تلج..والنجمات حيرانين وزهور الطرقات بردانين..تلج تلج عم بتشتي الدنيي تلج..والغيمات تعبانين عالتلة خيمات مضويين”… غنّت لنا فيروز هدايا العيد وزينته وأجراسه ورموزه وغمرتنا بكل ما يحمله العيد من فرح وبهجة وسرور، وكلّما فاجأنا زمن انطفاء العيد، ولملمت الزينة أضواءها ورحلت، لا يبقى لنا من زمن الميلاد والأعياد وما تتركه في القلوب إلا بضع أغنيات … قدّمت السيدة فيروز مطلع ستينات القرن الماضي أسطوانة “أغنيات الميلاد”، جمع العمل ألحاناً وترانيم من التراث السرياني واللاتيني والأوروبي والأميركي،ولحناً واحداً أصبح من تراث لبنان الخاص بالميلاد.. ومن ألحان “هندل” وكلمات جوزيف حرب غنّت لنا:” تذكر يا حبيبي ليل وسهر البيوت بيروت بيروت ببيروت..ليليي نجوم كتير تنزل تزهر وتطير عشبابيك البيوت قناطر البيوت..تذكر يا حبيبي بيروت بيروت..بيروت زعلاني كتير بيروت سهراني كتير بيروت يا بيروت” .. وبالكاد بقي قناطر للبيوت في بيروت ، إلا أنّ نكهة ليلها ما زالت ما زالت تحمل عبقها ، والسهر ما زال فيها سهراً، وبيروت “بعدها زعلاني كتير” وما زالت خائفة تترقب أيام ثقيلة تمرّ عليها وعلى أهلها.. غنّت فيروز لطفولتنا التي كانت تجد في الشجرة وزينتها أقصى الفرح “كنا نزين شجرة زعيرة” من كلمات الشاعر جوزف حرب ولحنها من التراث الإنكليزي “كنا نزين سجرة صغيرة و نعلق فيها جراس..عليها نجوم بيلمع لونا بيلمع متل الألماس..ملياني تلج و ملياني ملبس أبيض بكياس..يا جراس وعي الناس للقداس يا جراس..يا جراس الليلة عيد وعي الناس )…( كل عيد وأنتو بخير أنتو بخير..كل عيد و بلدي بخير بلدي بخير”… وفتحت لنا فيروز أبواب عام يجيء وأغلقت معنا باب عام يروح فغنّت عيد الدني،أيضاً من كلمات جوزف حرب،ومن ألحان التراث الألماني:”عيد الدني راس السني بيتي هدايا و زيني)…( وتحت الشتي جايي سني ما منعرف شو مخبايي .. راحت سني طلّت سني لونا أبيض و جديدي..الولاد ترسم عوجوهن عيد والناس تعطيهن عمر جديد..وتغفى سني و توعى سني و أنتا تبقى حبيبي” ، أقنعتنا فيروز أن السنة الجديدة تمنحنا عمراً جديداً ولا تطوي من عمرنا عاماً، أليس الصوت عبقرياً ساحراً ليقنعنا بهذه المعادلة الحسابية ؟! وغنّت “هللو هللويا” من التراث الفرنسي كما غنّت من ألحان بيزيه [ملوك المجوس] ومن ألحان نيغرو- سبيريتوال[روح زورهن ببيتهن] ومن ألحان فرانز غروبر [عيد الليل] .. ومنذ نصف قرن ما زالت أغنية “ليلة عيد” [التي ذيّلت بكلمة من التراث الأميركي] تشكّل فرحاً هارباً في القلوب كلما جاءنا عيد حتى لو لم يكن ليلة عيد الميلاد، ولو لم يكن فيه زينة ولا ولاد ولا صوت جراس عم ترنّ بعيد… ما زال لحن هذه الأغنية هو الأشهر في بلاد العالم وقد غُنّي بمعظم لغات أهل الأرض وهو الشهير بـ Jingle Bells، هذا اللحن وضعه عام 1857 الشاعر والملحن الأميركي جيمس لورد بيربونت المولود في 25 نيسان/ أبريل 1822 في ولاية بوسطن،وفي آب/ أغسطس 1857 ، وضع بيربونت لحن أغنيته “حصان واحد مفتوح الزلاجة” وكانت الأغنية في الأصل مخصصة لحفل مدرسة الأحد في عيد الشكر في سافانا بولاية جورجيا ، وفي عام 1859، أعيد إصداراها تحت عنوان “ Jingle Bells” وأصبحت واحدة من الأغاني الأكثر شعبية في أميركا ، وأدخلت تعديلات على النصّ الأصلي فأصبحت الأغنية المعترف بها في عطلة عيد الميلاد في أميركا. وفي 16 كانون الأول/ديسمبر عام 1965 كانت “Jingle Bells” أول أغنية تؤدّى في الفضاء فأنشدها اثنان من رواد الفضاء في وكالة ناسا وهما “والي شيرا وتوم ستافورد” كانا على متن رحلة الجوزاء 6 ، وعزفت لحنها الهارمونيكا والأجراس في مركز مراقبة المهمة، ومن 1890 حتى العام 1954 ، ظلّت أغنية “Jingle Bells” من بين الـ 25 أغنية الأكثر شعبية بين الأغنيات التي سجلت في التاريخ.. مع صوت السيدة امتدّ عمر الأغنية ، وسيمتد مع كلّ عيد يجيء ويروح وسنظلّ نردد معها مهما أفقدنا الأعياد إنسانيتها ، ومهما ابتعدنا عن قيمها السامية والروحيّة والأخلاقيّة العالية ، ومهما كبرنا سيبقى سؤال الأخوين رحباني في الأغنية لا يحظى منّا بإجابة ، لأننا لا نعرف كيف تجلب الأعياد الفرح إلى القلوب :”يا مغارة كلا بيوت..تلمع متل الياقوت..كيف جبتي عالدار..تلج شرايط وقمار..مين اللي جاي بعيد..عم بيرش مواعيد..يدق بواب الناس و يمشي..والخير علينا يزيد” ..