“إن علاقتي بأم كلثوم لم تكن حباً.. إنما كانت تقديساً.. ما كان بيننا كان أكثر من الحب”.
عام 1972 كتب أحمد رامي آخر قصائده لأم كلثوم : “يا مسهرني” كانت الأغنية الأخيرة لمسة عتاب من رامي لسومة، بروي ابنه أنه” كان جالساً في المنزل ومر وقت من دون أن تسأل أم كلثوم عنه فنظم عتبه شعراً: “ما خطرتش على بالك يوم تسأل عني/ دي عيني مجافيها النوم يا مسهرني/أمال غلاوة حبك فين .. وفين حنان قلبو علي/ وفين حلاوة قربك فين؟/ فين الوداد والحنية؟/يا ناسيني وانتَ على بالي/ وخيالك ما يفارق عيني/ ريحني/ واعطف على حالي/وارحمني من كُتر ظنوني”. وحتى اليوم لم يخرج علينا باحث بدراسة يخصصها لترصد هذا الحب السامي الذي جمع بين أعظم مطربات الغناء العربي والشاعر الذي أغرم بها فتركا لنا أجمل قصائد وأغنيات الحب في جميع تجلياته .
منذ اعتلت أم كلثوم خشبة المسرح وطوال خمسين عاماً حرصت حتى حفلها الأخير في كانون الثاني )يناير( أن يجلس “شاعرها” أحمد رامي في كل حفلاتها في المقعد رقم 8 بالصف الأول…عاش أحمد رامي بعد رحيل أم كلثوم ست سنوات لم يكن راغبا في أن يعيشها [توفي عن عمر ناهز 89 عاماً في 4 حزيران ـ يونيو 1981]، ويصف ولده المهندس توحيد رامي حاله بعد وفاة أم كلثوم:” كسر القلم بعدها وهجر الشعر والناس وجلس مريضاً بالاكتئاب النفسي لغيابها، ولم يكتب قصيدة رثاء في أم كلثوم حتى تموز العام 1975.. فعندما رحلت أم كلثوم أصيب بصدمة عنيفة هزت كيانه وأدخلته في حالة انعدام الوزن فاعتزل الناس وعاش وحيداً في حجرته التي كان يطلق عليها دوماً “الصومعة” وعاش في دوامة من التصوف.. ولم يكن يفرج عنه إلا بعض الأبيات الشعرية التى يكتبها يناجى فيها ربه مثل” :يا إلهي يا خالقي سبحانك/إن في طاهر القلوب مكانك/جئت أسعى إلى رحابك أدعو/ولساني مرتل قرآنك”.
وظل أحمد رامي يستعيدها بنظره إلى الخاتم الذي قدمته له هدية في ذكرى مرور عشر سنوات على زواجه وقد حفر عليه الحرفين الأولين من اسمها “OK” وظل هذا الخاتم في يده أربعين عاماً” .
لم يتحدث رامي إلى الصحافة بعد رحيل أم كلثوم إلا مرات قليلة جداً انتقد فيها بعنف حال الأغنية العربية بعدها: “موسيقانا الآن كرجل صعيدي بجلباب بلدي ولكنه يرتدى برنيطة أمريكاني والأغنية الآن كالبطيخة الماوي فيها مياه وكبيرة الحجم ولكن ليس لها طعم…الأغنية فقدت الكلمة الحلوة والمعنى الجميل وأصبحت ألفاظها سوقية مكشوفة ومعانيها مبتذلة تافهة وخرجت عن إطار الروحانية وسقطت في أوحال المادية الحسية”…
كانت العلاقة الفنية بين رامي وأم كلثوم “النموذج الأمثل” لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين شاعر كبير ومطربة عظيمة ، أحب أحمد رامي أم كلثوم منذ سمعها لأول مرة تشدو بقصيدته:”الصب تفضحه عيونه”، ولم يكن رامي يخجل من إعلان حبه وسعادته بعذاب هذا الحب فكان يقول: “تعلمت من تجاربي معها كيف أتجنب الشراك فلا أقع فيها.. فموقفي السلبي هو حصني الحصين.. رغم أنى كنت أتعذب فهي محط أنظار وعواطف الكثيرين وعندما تملكني اليأس من الارتباط بها قررت الزواج”.
تأكد أحمد رامي عندما رأى ما حل بصبري النجريدي الذي أغلق عيادته في طنطا وجاء ليقيم في القاهرة وطلب الزواج من أم كلثوم فصدته بخشونة مما جعل رامي يتعلم الحكمة من رأس الذئب الطائر ويقول رامي عن ذلك :”عندما طلب النجريدي الزواج من أم كلثوم صدمَتْه فشعرتُ بأنني قرينَهُ فقد أشار إلي بفعلته إلى ما لا ينبغي أن أفعله” .
لم يتزوج أحمد رامي إلا في سن الثانية والأربعين وغنت له أم كلثوم في حفل زفافه أغنية كتبها يصف لها فيها هناءَه وشقاءه في حبها: “اللي حبك يا هناه في نعيمو أو شقاه”.. ورغم زواجه كان يردد دوماً :”إن علاقتي بأم كلثوم لم تكن حباً.. إنما كانت تقديساً.. ما كان بيننا كان أكثر من الحب”.
وصف مرة الشاعر صالح جودت هذا الحب الغريب بين أحمد رامي وأم كلثوم قائلاً: “ليس حب رجل لامرأة.. لقد كان حباً إلهياً قدسياً.. زي حب الإغريق لآلهة الأوليمب.. منذ عرف رامي أم كلثوم سنة 1924 وهو يحس نحوها بنوع من الغيرة السامية.. نوع من الرغبة في الصيانة والحراسة” .
ارتضى أحمد رامي أن يصبح درويشاً يدور في فلك أم كلثوم الصوت والحبيبة فعندما يسمع صوتها كان يصاب بحالة “دروشة” ويصف نفسه قائلاً “أبقى مذهولاً ومذهوباً بي” ويغمض عينيه ويقول:”العيون لها عقل ولسان والصب تفضحه عيونه”.
ظلت صورة “أم كلثوم” فى حجرة نوم أحمد رامي معلقة خمسين عاماً ولم تدخل الغيرة قلب زوجته عطيات خطاب ،كانت تدرك نوع العلاقة بين الملهمة والمبدع، وكان لرامي طقوس خاصة في الذهاب إلى إلى حفلات أم كلثوم إذ يذهب في كامل رونقه وأناقته ، ولم يصحب زوجته معه في أي مرة .. وكانت زوجته من الممكن أن تذهب إلى حفلات أم كلثوم مع صديقاتها، وهناك لم تكن تذهب لمصافحته أو حتى التحدث معه ..
في لقاء صحافي وصف أحمد رامي بنفسه حاله وطقوسه استعداداً لسماع أم كلثوم في حفلاتها فكان أبلغ من وصف حاله وحالها في الغناء:”إني أحتشد لسماعها كما أستقبل عيداً من أعياد الدهر، أحب أن أقضي وقتاً قبل سماعها وأنا وحدي، لينمحي كل جِرْسٍ من أذني عدا صوتها المنتظر، ثم أدخل قبل رفع الستار بقليل، حتى إذا رفع الستار ملأت عيني منها في لحظات، ثم تبدأ الآلات تعزف، فأزن مبلغ هشاشتها إلي استماع النغم، ولست أعرف أحداً ممن يغنون يطرب لسماع أول انبجاس الأوتار بالنغم كهذه الشادية، فإنها إذا سمعت رجع الأنغام أصابتها رعشة، ثم تدب بقدميها دباً خفيفاً، كأنها تنقر بهما على أوتار خفية، ثم تبلعُ جيدها وترمي بعينيها بنظرة سابحة إلى آفاق بعيدة.. حتى إذا خفت النغم، انساب صوتها ليناً رقيقاً، فكأن الأوتار الصادحة لم تكف عن العزف ثم ينبثق صوتها كما تنبثق الزهرة تحت الندي، ويخرج من فمها كما ينبعث النور من الشرق.. ويشتمل رنين هذا الصوت العجيب على قائمة الغناء، حتى كأن جوها مضمخ بعبير من اللحن الساري، وهي في كل هذا تدور بقدميها تحت ثوبها الفضفاض، كأنها تدعك عود الريحان حتى يشتد أريجه، فإذا بلغت القمة في الغناء، سبحت بنظراتها إلى لاشيء، ونسيت أنها تغني للناس، وكأنها وحيدة مع الشفق في برج فسيح تغرد مع الأطيار” .