عام 1971 قرر المعهد القومي للقياس والمعايرة في مصر أن يقوم بتجربة فريدة في وقتها ، فاستعان بألفين من الأسطوانات التي سجل عليها المطربون والمطربات أغانيهم في نصف قرن من الزمن ، وكانت التجربة تهدف إلى وضع سُلم الموسيقى العربية على أساس علمي ، وما جاء في نتائج التجربة كان مُذهلاً بحسب طاقات الصوت البشري ، فقد أثبتت أجهزة البحث الالكترونية التي استخدمت في هذا البحث أن ترددات صوت أم كلثوم تبلغ 3996,5 ذبذبة في الثانية الواحدة، متخطية بذلك صوت المقرئ الأهم حتى يومنا هذا الشيخ محمد رفعت،فصنف صوتها أنقى الأصوات العربية وأعلاها ، من حيث تطابق معدنها الصوتي ، مع المعادلات الرياضية للسلم الموسيقي.
من زمن بعيد وظاهرة الألقاب في الفن قديمة جداً ، والخلاف والتنازع عليها شيمة الفنانين ، ففي عشرينات وثلاثينات القرن الماضي اشتهرت ألقاب كثيرة ، فدولت أبيض: صديقة العمال، وزينب صدقي: صديقة العظماء، ومنيرة المهدية:سلطانة الطرب، وفتحية أحمد:مطربة القُطريْن، أما أم كلثوم فعرفت بألقاب عدة: كروانة مصر، أميرة الإنشاد والغناء، كوكب الشرق، سيدة الغناء العربي، أما اللقب الذي تمسكت به بشدة فكان “الأسطى”، فعندما لمع نجم أم كلثوم في منتصف العشرينات ، كان متعهد حفلاتها يبحث لها عن لقب تتميز به عن باقي المطربات خصوصاً بعد مكيدة منيرة المهدية التي قدمت على مسرحها مطربة ناشئة وأسمتها أم كلثوم… فقرر متعهد حفلاتها يوسف حسنين أن يكتب اسمها في الإعلانات :”الأسطى أم كلثوم”..
وكان لقب “أسطى” في ذلك الزمن أقصى ما يطمع فنان في الوصول إليه ، وهذا اللقب مشتق من كلمة أستاذ، وكان سلاطين آل عثمان ينعمون به على الفنانين والأدباء ، ولما ظهرت الإعلانات باسم الأسطى أم كلثوم ، غضبت منيرة المهدية وسارعت إلى إنجاز أغنية “أنا الأسطى والأسطى أنا”، وحرصت على غنائها في كل حفلة كانت تعرف أن أم كلثوم موجودة فيها .
وحدث أن إحدى شركات الأسطوانات سجلت لأم كلثوم بعض أغنياتها وكتبت:”الست أم كلثوم” فغضبت أم كلثوم واتهمت الشركة بأنها حرمتها من لقب “الأسطى” لإرضاء منيرة المهدية .
وإذا ما كان مبيعات الأسطوانات وأرقامها ما زالت حتى اليوم مقياس شركات الإنتاج في تقييم أي فنان ، وبالرغم من كل التطور التكنولوجي الذي شهده الغناء مع دخول عصر الديجيتال ، ففي العام 1928 وضع الموسيقار محمد القصبجي لحنه الذي جعل من المونولوج قالباً غنائياً جديداً من قوالب الغناء ، هذا اللون حمله معه أحمد رامي من فرنسا بعدما عاد من بعثته إلى السوربون حيث درس اللغة الفارسية بهدف ترجمة “رباعيات” عمر الخيام إلى العربية، فنظم لأم كلثوم قصيدة “إن كنت أسامح وانسى الأسية” فسجلتها على أسطوانات His Master,s Voice بيع منها مليون أسطوانة ، وهو رقم لم تتجاوزه بعدها أغنية في العالم العربي .
في القاهرة،حيث ترقد أم كلثوم في مدافن حي البساتين قصدت زيارتها لتلاوة الفاتحة لروحها في العام 2000،يتوسط حجرات المدفن الذي يضمها ووالدتها، حجرة صالون على حائطه علقت قصيدة في رثائها نظمها الشاعر أحمد رامي بيده في تموز (يوليو) عام 1975 بعدما أفاق من ذهول وفاتها، حتى الصحف المصرية خرجت صباح 4 شباط (فبراير) تحمل عنواناً صادماً: ماتت أم كلثوم…
تساءلتُ دائماً: كيف استطاع أحمد رامي أن يتحمل فجيعة من نذر حبه وشعره وطأة فراقها؟ و قرأت من سطور القصيدة:
“ما جال في خاطري أني سأرثيها/ بعد الذي صغت من أشجى أغانيها
قد كنتُ أسمعها تشدو فتطربني/واليوم أسمعني أبكي وأبكيها
صحبتها من ضحى عمري وعشتُ لها/ أوف شهد المعاني ثم أُهديها
أضفى إلهي عليها ظل رحمتِهِ/ وظل من منهل الرضوان يسقيها
تَبْلى العظامُ وتبقى الروح خالدة/حتى تُرد إليها يوم تُحييها”