“الفن لا يمكن أن يموت، إلا إذا انطفأت الإنسانية”، بهذه الجملة ختم الألماني أرنست فيش كتابه “ضرورة الفن”، والكتاب ما زال حتى اليوم واحداً من أهم المراجع في تناول الفن وفلسفته وواقعه وأهميته ودوره وأصوله ومستقبله..
في فترة الأربعينات من القرن الماضي وفي “شارع محمد علي” الشهير بشارع “العوالم”،وقد خلدته “العبقرية” شيريهان في مسرحيتها: “شارع محمد علي”، انتشرت أغنية: “هات القزازة واقعد لاعبني/المازة طازة والحال عاجبني” لمغنية اسمها “سنية خلع” وكانت تلقى إقبالاً لدى الرجال فلم يعتبروا أن الأمر فيهه عبارات خادشة، وهذه اللازمة الغنائية “خلدتها” أفلام مصرية كبيرة وكثيرة، منذ هند رستم وصولاً إلى نادية الجندي… ثم ألم تغني أم كلثوم في فترة الأربعينات هذه “فاكر لما كنت جنبي، يا ليلة العيد، هلت ليالي القمر، وغلبت أصالح في روحي” ، فأي مرآة هي الأصدق للأربعينات؟ “هات القزازة أم فاكر لما كنت جنبي”؟ وكيف يتحمل الفن هذه الازدواجية: التطور والتدهور في آنٍ معاً، هذا إذا اعتبر النقاد أن “هات القزازة واقعد لاعبني” تدهوراً وانحداراً في التذوق الفني.
وماذا لو فكرت “مغنية” ما من مغنيات هذا الزمن إعادة تقديم هذه الأغنية كجزء من تراث الأربعينات ، ألن يشحذ النقاد أقلامهم “الهيغيلية” ـ نسبة إلى الفيلسوف جورج ويلهلم فريدريك هيغل (27 أغسطس 1770 ـ 14 نوفمبر 1831) فيلسوف ألماني يعتبر أهم مؤسسي حركة الفلسفة المثالية الألمانية في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي ـ متقمصين فلسفته المثالية، وستهب الرقابة أيضاً لحماية “الفضيلة والأخلاق” مع أن مجتمعاتنا لا تتحلى بهاتيْن الصفتيْن اليوم وتأخذ قراراً بمنع الأغنية لأنها تدعو إلى الشرب واللعب، على الرغم من أن فخر “المطبخ اللبناني” هو تعدد أنواع “المازة الطازة” وأجناس “العرق” المشروب الوطني “فخر صناعة كرومنا”..
الفن هو المرآة العاكسة ليس إلا.. والسؤال: من ينتج من؟
للحصول على إجابة لا بد من العودة إلى أرنست فيشر وكتابه :”إن كل فن يحدد عصره ، ويمثل الإنسانية “.. وبحسب فيشر: “في المجتمع المشرف على الانهيار، يجب على الفن، إن كان صادقاً، أن يعكس هذا الانهيار”..
وفي عالم الرأسمالية ، اختصر فيشر الصورة: “في مثل هذا العالم أصبح الفن سلعة وأصبح الفنان منتجاً للسلع وحلت محل الدعاية الشخصية السوق الحرة )…( المؤلفة من مجموعة هائلة من الزبائن يطلق عليهم إسم “الجمهور” .
أغنية “سنية خلع” أليست المشهد الحقيقي المتطور للحظة لقاء معظم المطربين بجمهورهم في سهرة “طاولاتها عامرة بالمازة الطازة” سواءً كانت في مربع يشغل مساحة كبيرة من فندق سبع أو خمس نجوم، أو في “بيستات” المطاعم الفقيرة التي تكتظ هذه الأيام بالفنانين “المهاجرين” وأغلبهم من أبناء العراق الباحثين عن حلم شهرة حقّقها في بيروت “كاظم الساهر” الفنان العراقي الأول وفاتح باب “الفنان المهاجرين”، وهذه ظاهرة ثانية من مظاهر الفن والغناء لها مجال وبحث آخر.