قالت أم كلثوم:”اعتقد أن أهم ما يُمكن أن يُكتب عني بعد موتي، أنني نقلتُ الجمهور من الإسفاف الغنائي الذي كان يعيشه..من أغاني:إرخِ الستارة اللي في ريحنا/أحسن جيرانك تجرحنا”..إلى مستوى “إن حالي في هواها عجب” و “الصب تفضحه عيونه” و “رباعيات الخيام” . وقد كان إصراري على خوض هذه المعركة، أنني، وأنا وافدة على القاهرة من ريف المنصورة، غنيتُ مرة للجمهور “سبحان من أرسلَهُ رحمةً لكل من يسمع”،فصفر الجمهور وراح يصيح:”عاوزين هات القزازة واقعد لاعبني”. وليلتها لم أغضب من الجمهور..فإنه معتاد على ما يُقدم إليه..وفكرتُ في أن أعوده على أشياء أخرى” .
بعد واحد وثلاثين عاماً على رحيلها؛ لم أجد أوثق من كلامها لأبدأ به هذه الخماسية، قبل أم كلثوم كان الغناء العربي في العشرينات قد وصل إلى طريق مسدود، وتجمدت حناجر المطربات والمطربين على الطريقة التركية في الأداء مشوبة بطريقة الأداء الغجرية كما عرفها الريف المصري في ذلك الوقت ، وسيطرت أصوات أفسدها “الهنك والرنك” التي كان آخر أبطالها الشيخ سلامة حجازي ومنيرة المهدية..وعندما أوشكت أصوات الغناء العربي أن تندثر تحت تراث مئات السنين من الإهمال ، وسميت المقامات والإيقاعات العربية بأسماء تركية وفارسية وكردية .. وسط هذا الانحدار والدمار الذي كانت الأغنية تتعرض له جاءت أم كلثوم ، فتغير وجه الغناء في العالم العربي.
في تقرير لمجلة نيوزويك عام 2000 احتفالاً بوداع القرن العشرين صنفت أم كلثوم من ضمن أهم شخصيات ذلك القرن إلى جانب شارل ديغول وونستون تشرشل ،والخميني، وميخائيل غورباتشوف ونلسون مانديلا ومارتن لوثر كينغ وغيرهم من الذين غيروا معالم وخارطة العالم في القرن الماضي.
لم تكن أم كلثوم سيدة الغناء العربي فحسب، بل صوت وتراث فني تحول إلى رمز سياسي يتم استرضاؤه حتى تميل السياسة المصرية والعربية ومن ثم الشعوب العربية نحو اتجاه معين بل وتثير الغيرة بين دول كبرى، ولم يأتِ تفكير الحكومة الأميركية من فراغ عندما أوفدت الأدميرال بروف كبير الأطباء في مستشفى البحرية الأميركية إلى مصر لدعوة السيدة أم كلثوم للعلاج على نفقة الحكومة الأميركية بعد معاناة مرض في الغدة الدرقية عام 1952. وبالفعل سافرت لتبدأ رحلة علاجها، الأمر الذي أثار غيرة الاتحاد السوفياتي طيلة 6 سنوات حتى جاء عام 1958 حاملاً معه دعوة سوفياتية للزيارة والفحص الطبي بالعاصمة موسكو.
منذ مطلع السبعينات شهدت صحة أم كلثوم تدهوراً كبيراً واضطرت إلى إلغاء العديد من حفلاتها الشهيرة التي كانت تقيمها في الخميس الأول من كل شهر في العامين (1972 و 1973(، لاضطرارها إلى التنقل بين أوروبا وأميركا طلباً للعلاج من مرض الكلى، بعدما بلغ حد إفراز الكلى للملح درجة الخطورة على حياتها، فقرر الأطباء في لندن أن تواظب على شرب الماء بالملح، وعاشت على الماء المالح، على عكس حلاوة صوتها ، ويروي الشاعر الذي ظل عاشقاً لأم كلثوم منذ لقائهما الأول إلى أن فجعه رحيل “محبوبته” عن أحد جوانب الطرافة في شخصية أم كلثوم فقد تعودت طلب فنجان القهوة الذي تتركه يبرد ثم تشربه قبل الغناء مباشرة بارداً كالماء، ويتساءل رامي : هل هذا هو السر في حلاوة صوتها.. الله أعلم؟!!
في 21 كانون الثاني ) يناير( 1975 أصيبت أم كلثوم بنوبة حادة فنقلت إلى المستشفى رغم إرادتها،وامتلأ منزلها في الزمالك بالصحفيين الذين منعوا من ملازمة المستشفى، وكانوا يتسقطون الأخبار الواردة إلى المنزل من الأطباء المعالجين، في حين فتحت الإذاعة السورية خطاً تلفونياً مباشراً مع مراسلها في القاهرة لتلقي الأنباء ساعة بساعة، أما جريدة الأهرام المصرية فقد خصصت نشرة يومية عن صحة أم كلثوم، التي تعافت قليلاً وعادت إلى منزلها ولم يكد عشاق الصوت يفرحون لشفائها، حتى عاجلها انفجار في الدفاع ليل 28 كانون الثاني ) يناير( ودخلت في غيبوبة استمرت أياماً خمسة ، ووافتها المنية في الثالث من شباط ) فبراير( ، وتقررت إقامة الجنازة في اليوم نفسه وأن يكون التشييع من مسجد عمر مكرم، إلا أن الأخبار بدأت ترد عن عدد كبير من غير المصريين ومن المصريين المقيمين في الخارج الراغبين في المشاركة في التشييع، مما اضطر المسؤولين إلى تأجيلها ليومين..وفي الخامس من شباط ) فبراير( امتلأت شوارع القاهرة بملايين أربعة ، طوفان بشري من المشيعين الذين لم يسمحوا بتنفيذ مراسم التشييع كما كانت مقررة، فنالت أم كلثوم تشييعاً شعبياً لم يسبق له مثيل، إذ أخذ المواطنون النعش من حامليه الرسميين وراحوا يتبادلون حمله لمدة ثلاث ساعات وطافوا به شوارع القاهرة متوجهين إلى مسجد “سيدنا الحسين”،وهناك صلى عليه أمام الجامع وطلب من المشيعين أن يأخذوا الجثمان إلى مثواه الأخير تنفيذا للتقليد الإسلامي، مؤكداً أن أم كلثوم كانت مسلمة متدينة وأنها ما كانت لتقبل إلا بأن يتم دفنها حسب التقليد الإسلامي، وهكذا كان.
غداً : الحلقة الثانية.. أحمد رامي “يا مسهرني” .