عصر المماليك
في العصر المملوكي كان الاحتفال بحلول شهر رمضان ورؤية
هلاله ، يبدأ بخروج قاضي القضاة لرؤية الهلال ومعه القضاة الأربعة كشهود
ومعهم الشموع والفوانيس، ويشترك معهم المحتسب وكبار تجار
القاهرة ورؤساء الطوائف والصناعات والحرف،وكانوا يشاهدون
الهلال من منارة مدرسة المنصور قلاوون المدرسة المنصورية
“بين القصرين” لوقوعها أمام المحكمة
الصالحية “مدرسة الصالح نجم الدين” بالصاغة، فإذا تحققوا من رؤيته أضيئت الأنوار على الدكاكين وفي المآذن
وتضاء المساجد، ثم يخرج قاضي القضاة في موكب
تحفّ به جموع الشعب حاملة المشاعل والفوانيس والشموع حتى
يصل إلى داره، ثم تتفرق الطوائف إلى أحيائها
معلنة الصيام.
وقد وصف الرحالة “ابن بطوطة” عام 727هـ الاحتفال
برؤية هلال رمضان في مدينة “أبيار”
بالقرب من المحلة الكبرى، فقال:”وعادتهم في يوم الركبة أن يجتمع فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر بدار القاضي،
ويقف على باب الدار نقيب المتعممين وهو ذو
شارة – هيئة حسنة – فإذا أتى أحد الفقهاء أو الأعيان تلقاه
ذلك النقيب ومشى بين يديه قائلاً “باسم
الله سيدنا فلان الدين” ويجلسه النقيب في موضع يليق به، فإذا تكاملوا جميعًا وعلى رأسهم القاضي، وتبعهم مَن
بالمدينة من الرجال والصبيان حتى إذا ما
انتهوا إلى موضع مرتفع خارج المدينة – وهو مرتقب الهلال
عندهم- وقد فرش الموضع بالبسط والفرش فينزل
القاضي ومن معه يرتقبون الهلال ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب وبين أيديهم الشموع والمشاعل
والفوانيس، فيكون ذلك دليلاً على ثبوت الرؤية
فيوقد التجار الشموع بحوانيتهم وتكثر الأنوار في الطرقات
والمساجد.
ومن احتفال ليلة رؤية الهلال في عام 920هـ في عهد السلطان
الأشرف قنصوه الغوري- فقد حضر القضاة الأربعة
بالمدرسة المنصورية، وحضر الزيني بركات بن موسى المحتسب، فلما ثبت رؤية الهلال وانفض المجلس ركب
المحتسب ومشى أمامه السقاءون بالقرب وأوقدوا
الشموع على الدكاكين وعلقوا المواقد والقناديل على طول
الطريق إلى “بيت الزيني بركات“..
وفي مستهل الشهر يجلس السلطان في ميدان القلعة ويتقدم إليه
الخليفة والقضاة الأربعة بالتهنئة، ثم
يستعرض كميات الدقيق والخبز والسكر وكذا الغنم والبقر المخصصة لصدقات رمضان يعرضها عليه المحتسب بعد أن
يكون قد استعرضها في أنحاء القاهرة تتقدمها الموسيقى،
فينعم على المحتسب وعلى كبار رجال الدولة.
وقد اهتم سلاطين المماليك بالتوسع في البر والإحسان طوال
الشهر المبارك.. فالسلطان
برقوق “784هـ-801هـ” اعتاد طوال أيام ملكه أن يذبح في كل يوم من أيام رمضان خمسة وعشرين بقرة يتصدق بلحومها،
بالإضافة إلى الخبز والأطعمة على أهل المساجد والروابط
والسجون؛ بحيث يخص كلَّ فرد رطل لحم مطبوخ وثلاثة أرغفة، وسار على سنته من أتى بعده من السلاطين فأكثروا من
ذبح الأبقار وتوزيع لحومها، كما رتب السلطان بيبرس خمسة
آلاف في كل يوم من أيام شهر رمضان..
كذلك اعتاد سلاطين المماليك عتق ثلاثين رقبة بعدد أيام
الشهر الكريم، بالإضافة إلى كافة أنواع
التوسعة على العلماء حيث تصرف لهم رواتب إضافية في شهر رمضان، خاصة ما يصرف من السكر وقد بلغت كمية السكر في
عصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون سنة 745هــ ثلاثة آلاف قنطار
قيمتها ثلاثون ألف دينار منها ستون قنطاراً في كل يوم من
أيام رمضان.
أما السلطانة ملك أرملة السلطان حسين كامل فكانت تخرج في
موكب لتوزيع نقود ذهبية على الأطفال، وكانت
ترتدي فستانًا طويلاً، وعلى الطفل أن يقبل ذيل فستانها، وهنا
تقوم السلطانة بإهداء كل طفل كيسًا صغيرًا من الحرير يحمل
عشرة ريالات ذهبية وكان الريال في حجم المليم.
العصر العثماني
في العهد العثماني كان القضاة الأربعة وبعض
الفقهاء والمحتسب يجتمعون في التاسع والعشرين من شعبان بالمدرسة المنصورية في
“بين القصرين”، ثم يركبون جميعاً يتبعهم أرباب
الحرف وبعض دراويش الصوفية إلى موضع مرتفع بجبل المقطم حيث
يترقبون الهلال؛ فإذا ثبتت رؤيته عادوا وبين أيديهم
المشاعل والقناديل إلى المدرسة المنصورية، ويعلن المحتسب ثبوت رؤية هلال
رمضان ويعود إلى بيته في موكب حافل يحيط
به أرباب الطرق والحرف بين أنواع المشاعل في ليلة مشهودة.
وفي صباح أول أيام رمضان يصعد المحتسب والقضاة الأربعة إلى
القلعة لتهنئة الباشا” الوالي؛ فيخلع عليهم
“قفاطين” كما جرت العادة.. وفى بيوت الأعيان كان السّماط يُمدّ للناس
ولا يُمنع من يريد الدخول، وكانت لهم عادات وصدقات في ليالي رمضان يطبخون فيها
الأرز باللبن، ويملئون من ذلك قصاعًا كثيرة ويوزعون منها على
المحتاجين، ويجتمع في كل بيت الكثير من الفقراء فيوزعون
عليهم الخبز ويأكلون، ويعطونهم بعد ذلك
دراهم، خلاف ما يوزع من الكعك المحشو بالسكر و”العجمية” وسائر الحلوى.
أيام الحملة الفرنسية
في زمن الحملة الفرنسية في مصر.. وفي ليلة الرؤية كان قاضي
القضاة والمحتسب ومشايخ الديوان
يجتمعون ببيت القاضي “المحكمة” بين القصرين، وعند ثبوت الرؤية يخرجون في موكب يحيط بهم مشايخ الحرف
و”جملة من العساكر الفرنساوية”، وتطلق المدافع
والصواريخ من القلعة والأزبكية.
وكانت كِسْوة الكعبة تُودع بمشهد مولانا الإمام الحسين حتى
موعد “دوران المحمل” في الأسبوع الثالث من
شهر شوال، وفي رمضان 1215هـ “توجَّه الوكيل” “الجنرال فورييه” ومشايخ الديوان إلى المشهد
الحسيني لانتظار حضور “نابليون بونابرت” بسبب الكشف على الكسوة، وازدحم الناس زيادة على عادتهم
في رمضان، فلما حضر ونزل عن فرسه عن الباب
وأراد العبور للمسجد رأى ذلك الازدحام؛ فهاب الدخول وخاف
العبور وسأل من معه عن سبب هذا الازدحام،
فقالوا: “هذه عادة الناس في نهار رمضان يزدحمون دائمًا على هذه الصورة في المسجد، ولو حصل منكم تنبيه
كنا أخرجناهم قبل حضوركم، فركب فرسه وكرَّ راجعًا وانصرف”
.
وفي العام التالي 1216هـ كانت الأوضاع لا تسمح بمظاهر
احتفالية، خاصة مع تصاعد المقاومة الشعبية
لجيش الاحتلال الفرنسي، ولم تُعْمل فيه الرؤية على العادة؛ خوفًا من عربدة العساكر. وكان نابليون بونابرت يصدر
أمره بالمناداة في أول رمضان بألا يتجاهر غير
المسلمين بالأكل والشرب في الأسواق، وألا يشربوا الدخان
ولا شيئاً من ذلك بمرأى منهم؛ كل ذلك
لاستجلاب خواطر الرعية..
العصر الحديث
ومع بداية القرن العشرين في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني
انتقل إثبات رؤية الهلال إلى المحكمة
الشرعية بباب الخلق، حيث كانت مواكب الرؤية تخرج إلى المحكمة
الشرعية: موكب لأرباب الحرف على عربات مزدانة بالزهور
والأوراق الملونة، وموكب الطرق الصوفية
بالشارات والرايات والبيارق، وفرق رمزية من الجيش والشرطة بموسيقاها المميزة.
وكانت هذه المواكب تمر بقصر “البكري” بالخرنفش،
حيث نقيب السادة الإشراف وأمراء الدولة والأعيان
يستقبلون وفود المهنئين وتُوزع المرطبات ويتبادل الجميع التهاني، بينما مدافع القلعة والعباسية تدوي وتطلق
الألعاب النارية وتضاء الأسواق والشوارع
وجميع القباب والمآذن، يوم كانت المآذن تعلو البيوت.
وأما يوم الرؤية، فكان الموكب من القلعة يضم المحتسب وشيوخ
التجار وأرباب الحرف من الطحانين
والخبازين والزياتين والجزارين والفاكهانية وصانعي الفوانيس وحاملي الشموع، تحيط بهم فرق الإنشاد الديني
ودراويش الصوفية، وتتقدم المواكب فرقة من
الجنود.